بعد مرور أكثر من عامين على حكمها
كيف تتفاعل دول آسيا الوسطى مع حكومة طالبان في افغانستان؟
الوفاق/ جاء وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان ليُنهي سنوات طويلة من الحرب. اليوم عاد السلام عملياً إلى أفغانستان. طالبان بصدد تعزيز سلطتها والاستعداد للحكم طويل الأمد هناك. تبحث دول آسيا الوسطى عن نموذج مقبول للتفاعل مع الحكومة الجديدة في أفغانستان. لا توجد اليوم عملياً أية قوة سياسية خارجية أو محلية يمكنها التدخل في حكم طالبان،و فضّل المجتمع الدولي المتعب من الأزمة الأفغانية اختيار السلام السيئ مع طالبان على خوض حرب جيدة ضدها.
تغيرات جيوسياسية في أوراسيا
يشهد المشهد الجيوسياسي لأوراسيا اليوم تغييرات تكتونية كبيرة. تحل بعض الصراعات محل أخرى مُبقيةً العالم بأسره في حالة تعليق. من المرجح مع انهيار النظام أحادي القطب أن يصبح تدمير البنية الجيوسياسية القديمة أمراً لا مفر منه. وفي الوقت ذاته، سيخضع النظام العالمي الحديث للعلاقات الدولية لمزيد من التحسينات. في هذا السياق، قد تنشأ بؤر صراع جديدة أو تنفك بعض النزاعات المتجمدة. استمر الصراع الأفغاني في مرحلته الفاعلة حتى انسحاب القوات الأمريكية المحتلة من أفغانستان في أغسطس 2021. وقع هذا التطور تقريبًا في الوقت عينه مع بداية انهيار النظام أحادي القطب وما تلاه كالحرب الروسية الأوكرانية في شرق أوروبا.
طالبان الجديدة البراغماتية
لم يستقطب سقوط أفغانستان أمام طالبان لفترة طويلة العناوين الرئيسية العالمية. أثّر الصراع في أوروبا الشرقية على اتجاهات المجتمع الأفغاني، الذي يتكيّف الآن مع حكم الراديكاليين وفقاً للشريعة الإسلامية. من الواضح أن بناء الدولة في أفغانستان سيستند الآن إلى الدين، في حين أن منطق واستراتيجية تنمية المجتمع الأفغاني ستعتمد إلى حد كبير على تفسير طالبان للمعايير والنصوص الدينية وخاصة آيات القرآن. تحكم طالبان الآن أفغانستان بثقة،حيث اختلف وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان للمرة الثانية اختلافاً كبيراً عن دخولهم الأول عام 1996. في المرة الثانية، كان لطالبان موقف أكثر براغماتية وتركوا المجال مفتوحاً للحوار مع جيرانهم والقوى الإقليمية والعالمية. كما تغير الخطاب أيضاً وأصبح أكثر دبلوماسية. من المهم أيضاً ملاحظة أنه بحلول الوقت الذي عاد فيه طالبان إلى السلطة في أفغانستان، تمّ تطهير المشهد العسكري والسياسي في البلاد من القوى القادرة على منافسة طالبان. بينما كانوا يواجهون معارضة تحالف الشمال المؤلف من الطاجيك والأوزبك خلال وصولهم الأول إلى السلطة، لم يكن لدى طالبان خصوم قوياء يمكنهم معارضتهم خلال وصولهم الثاني إلى السلطة في أفغانستان. أعقب وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان توقف الحرب عملياً في البلاد.
تماسك طالبان و ضعف المعارضين
اليوم، لا يوجد بلد في العالم لديه الاستعداد والقدرة على إنشاء شيء مثل "تحالف الشمال" الذي اُستُخدم في وقت ما ثم تمّ إزالته من قِبل الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. لا يُلاحَظ وحدة وتماسك القوى حتى بين المعارضين الحاليين لنظام طالبان. الجماعات المناهضة لطالبان المتمركزة حاليًا خارج أفغانستان ليس لديها فعليًا قاعدة قوية داخل البلاد، فهي مشتتة وليس لديها زعيم كفؤ يمكنه تنظيم وقيادة حركة مقاومة ضد النظام في أفغانستان. في الوقت ذاته، فإن السكان الذين يفضلون الاستمرار في العيش في أفغانستان اليوم ملّوا من سنوات الحرب ويتطلعون إلى السلام الهش على الأقل والاستقرار النسبي حتى ولو كانت تحت راية "المتطرفين الدينيين" كما يسمهيم البعض. في الواقع، لم تحظ الجمهورية الإسلامية الأفغانية المخلوعة بدعم من غالبية سكان البلاد، لأنها كانت فاسدة للغاية واعتمد اقتصاد البلاد بالكامل على المساعدات المالية من الولايات المتحدة. تواجه أفغانستان اليوم أزمة اجتماعية واقتصادية حادة نتيجة لحكم القادة السابقين غير الفعالين لهذا البلد. ومع ذلك، فإن الأفغان شعب صبور ومجتهد. و قد يتمكن رواد الأعمال الأفغان من أن يستعيدوا اقتصادهم وأعمالهم بسرعة كبيرة إذا تمّ ضمان السلام في البلاد. ستغير أفغانستان في المستقبل، جنباً إلى جنب مع تعزيز السلام وضمان الاستقرار وتنمية الاقتصاد الوطني، التوافق الجيوسياسي والجيواقتصادي للمنطقة بالكامل.
التعامل ضمن مسافة
يفضّل معظم جيران أفغانستان أيضاً وجود شكل ما من أشكال السلطة المركزية هناك يمكن التعامل معها مع المحافظة على مسافة، وإجراء تعاون محدود في جميع المجالات. وفي الوقت ذاته، تتفاوض حركة طالبان، من دون تغيير جوهرها الراديكالي وموقفها الصارم في السياسة الداخلية، مع جيرانها وكذلك مع الدول الأخرى ذات المصلحة في أفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تتفاوض على قدم المساواة ولا تسمح لنفسها بالخضوع للأوامر الخارجية.
اليوم، يمكننا التنبؤ بثقة بأن معظم دول أوراسيا التي تتعامل مع نظام طالبان ستُرسّخ علاقاتها مع الحكومة الأفغانية الحالية في السنوات القادمة. تقريباً جميع الدول التي تتعامل اليوم مع الحكومة الأفغانية الحالية تدفعها مجرد البراغماتية. إحدى المهام الرئيسية لجيران أفغانستان وشركائها اليوم هي منع اندلاع مواجهة مدنية جديدة في المجتمع الأفغاني وتقديم المساعدات الإنسانية لشعب هذا البلد.
بالإضافة إلى ذلك، تتوسع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أفغانستان وبلدان آسيا الوسطى التي تسعى إلى تعزيز سلعها ومنتجاتها الزراعية ومواردها الطاقة في السوق الأفغانية. مع استقرار أفغانستان بالكامل، ستصبح الممرات وخطوط النقل واللوجستيات والتجارة الجديدة بين روسيا وآسيا الوسطى وجنوب آسيا مع نفاذ أكبر إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية ممكنة أيضًا. ترغب الصين أيضًا في أفغانستان مستقرة ومسالمة. إن إمكانات العبور الترانزيت في هذا البلد حلقة مهمة للغاية في مبادرة الحزام والطريق الصينية العالمية. من الواضح أن روسيا والصين قد أنشأتا حاليًا تعاونًا اقتصاديًا محدودًا وهما تجريان محادثات سياسية مع الحكومة الحالية في أفغانستان. يتعزز سلطان طالبان يوميًا في أفغانستان، حيث تسعى لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الحرجة التي تواجه مجتمع أفغانستان. قد يؤدي منطق حل المشاكل الاقتصادية المختلفة هناك إلى استبدال طالبان "الإيديولوجيين" في هياكل السلطة بـ "طالبان البراغماتيين". يمكن أيضًا افتراض أن هذه الفترة الانتقالية ستستغرق سنوات عدة وسنشهد تحول المنظمة العسكرية السياسية لطالبان بالكامل إلى حزب سياسي بامتياز، وسيتم دمج الهياكل المسلحة لطالبان في الصفوف العادية. وفي الوقت نفسه، من الممكن أن تتكيف القوات المسلحة الأفغانية مع الواقع الجديد مع المجتمع غير المتجانس الأفغاني والدول المجاورة. ومع ذلك، سيستغرق الأمر بعض الوقت.
مخاوف في آسيا الوسطى
القضية الرئيسية التي تثير اهتمام ليس فقط جيران أفغانستان اليوم ولكن المجتمع الدولي برمته هي مسألة الثقة في وعود طالبان. من المهم فهم ما مكانة آسيا الوسطى بالنسبة لطالبان؟ هل سيتم التعامل معها وفقًا لمبادئ الجوار أم سيتشكل تهديد منها؟ هل ستتحول أفغانستان إلى أرض خالية من الجماعات الإرهابية العابرة للحدود مثل القاعدة وداعش؟ لا توجد إجابات واضحة وشفافة بعد على الأسئلة السابقة. هناك احتمال بأنه مع تعزيز طالبان مكانتها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا والاعتراف بها، يصبح بإمكانها السيطرة الصارمة على الجماعات الإرهابية الدولية المختلفة في أفغانستان. لكن أكبر مصدر قلق اليوم بين دول آسيا الوسطى هو أيضًا مشكلة التصدير الإيديولوجي للتطرف الديني والسياسي من أفغانستان إلى المنطقة. وفي الوقت ذاته، لا تزال مستمرة تهديدات المسلحين التابعين للجماعات الإرهابية الذين ينسابون من الأراضي الأفغانية إلى أراضي الدول الواقعة في ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لذلك تواصل دول آسيا الوسطى، أثناء محاولتها إقامة تعاون اقتصادي وتجاري مع طالبان، تعزيز قدراتها الدفاعية.
سلام سيئ أفضل من حرب جيدة
تُظهر حركة طالبان الآن نفسها باعتبارها المُحرِّرة لأفغانستان من المحتلين الأجانب وخاصة الولايات المتحدة. ستوفر طالبان بصفتها الفائزة أقصى مقاومة ضد أي تدخل أجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد. حاليًا، يلاحظ بأن أي نصيحة وتطلعات، يواجهها المسؤولون الحاليون في أفغانستان برفض شديد أو اعتبارها مُرّة للغاية، على الرغم من أن هذه التوصيات قد تأتي دول دعمت طالبان دائمًا. تعتبر الحكومة الأفغانية الجديدة ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية لأفغانستان. ونتيجة لذلك، تشدد طالبان سياستها فيما يتعلق بالمواضيع التي تنتقدها المجتمعات الدولية. وبالتالي، لن تكون المفاوضات مع طالبان بلغة الإنذارات والتهديدات ممكنة، لأن ذلك سيزيد الوضع العسكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الأفغاني سوءًا. بيئة الضغط هي الموطن الطبيعي لطالبان. فقد قاوموا عقودًا من الضغط الأيديولوجي والعسكري والسياسي الحاد مع الغرب. وبالتالي، فإن مسار الضغط الجديد مع طالبان هو مسعى غير فعال للغاية لأي قوة خارجية. في ضوء ما سبق، فقد اختار اللاعبون الرئيسيون العالميون والإقليميون في المشهد الجيوسياسي لمنطقتنا اليوم السلام السيئ مع طالبان بدلاً من خوض حرب جيدة ضدهم.