من الثورة الدستورية إلى الثورة الإسلامية
تاريخ المجلس النيابي الإيراني في مئة عام
دخلت إيران مع الثورة الدستورية حقلاً جديداً من تاريخها المعاصر. كان الغرض من الثورة الدستورية هو الحد من سلطة الشاه قدر الإمكان، ومحاولة نسيان النظام الاستبدادي إلى الأبد وضمان نجاح إيران في مختلف المجالات. إن القانون الدستوري الذي تمت صياغته على أساس مشاركة الشعب وتبيان آرائه، أعطى صلاحيات غير عادية لمجلس الأمة بسبب الخوف من الاستبداد، كما منحه صلاحيات كثيرة في كافة الشؤون الداخلية والخارجية. أولى واضعو الدستور اهتماماً للسياسة الخارجية لإيران، فكانت مناهضة الاستعمار مخفيةً في نصوص الثورة الدستورية، إذ رأى شعب إيران أن البلاط والملك يعتمدان على القوى الأجنبية وهم في موقف الذل والضعف أمام القوى الأجنبية، ولذلك كان من أهم أهداف الدستور التخلص من الحكم الأجنبي، وهو ما كان موجوداً في الدستور وروح هذه الثورة.
وقد جاء في القانون الدستوري أنه لا يمكن للحكومة أبداً توقيع عقد جديد دون موافقة البرلمان، وكان هذا القانون في الواقع رد فعل على الامتيازات التي منحها الشاه والبلاط الإيراني للقوى الأجنبية في السابق والحصول على القرض منها دون مراقبة ومسائلة. ولذلك، فلقد تجلى أساس السياسة الخارجية في القانون الدستوري في نفي الهيمنة الأجنبية، التي تحققت عبر ممارسة سيادة الشعب.
وهنا علينا الإنتباه إلى نقطتين مهمتين: اختلف دور المجلس في الحياة السياسية الإيرانية وفقاً للسياسة الحاكمة، فعندما يغيب الاستبداد تتحقق المُثل الدستورية، أي مشاركة الشعب، ويسعى الدستوريون إلى تحقيق القانون الدستوري، الذي تتمثل عناصره الأساسية في مكافحة الاستبداد ونفي الهيمنة الأجنبية. وفي الواقع، قبل الثورة الإسلامية، لعب المجلس دورًا جديًا في فترات ضعف الدكتاتورية، وفي نص سلوك السياسة الخارجية للمجلس، التي شكلت منع الهيمنة الأجنبية عمادها الأساسي، ويمكن اعتبار برلمانات إيران بين الأعوام 1906م إلى 1925م و1941م إلى 1953 مؤهلة للقيام
بمثل هذا الدور.
في المقابل في الفترة التي يسيطر الاستبداد على الحكم ويضيع المثل الدستوري، ويُنسى روح الدستور في مجال السياسة الخارجية. يتم حذف مكافحة التدخل والهيمنة الأجنبية من جدول أعمال البرلمان. إن سنوات دكتاتورية رضا خان بين عامي 1925م و1941م وطغيان ابنه محمد رضا بهلوي بين عامي 1953م و1978م هي أمثلة واضحة على نسيان دور البرلمان في مجال السياسة الداخلية والخارجية.
البرلمان الإيراني زمن انتصار الثورة الدستورية ورفض الهيمنة الأجنبية
تضاءلت في هذه المرحلة سلطة الملك والبلاط وانتصرت الثورة الدستورية وزاد القانون الدستوري من صلاحيات البرلمان قدر الإمكان في المجالين الداخلي والخارجي. وشكلت مناهضة الاستعمار ومحاربة الاستبداد ورفض الهيمنة الأجنبية أهم سمات المجلس في هذه الفترة. فلقد عارض ممثلو الأمة في المجلس الأول اقتراض الحكومة والملك وحاشيته للمال من الغرب، معتبرين أن القروض ترهن البلاد للغرب، مقدمين اقتراحاً بتأسيس بنك إيراني بدل الاقتراض من الخارج. كذلك تُعد معارضة اتفاقية 1907 بين روسيا وإنجلترا أحد الإنجازات الأخرى للبرلمان الأول. فقد عارض ممثلي الأمة تقسيم البلاد بين روسيا وإنجلترا. لقد أدى تقسيم إيران بين روسيا وإنجلترا إلى الإضرار بشدة بالكرامة الوطنية للإيرانيين مما جعل الإيرانيين أقل ثقة في الدول الأجنبية من ذي قبل.
ومن ناحيةٍ أخرى، ففي فترة هذا المجلس تعدى العثمانيون على الحدود الغربية للبلاد، وقد وقف المجلس ضد هذا الاعتداء العثماني وأدانه بشدة. كذلك كانت المطالبات نفسها أساس عمل المجلس الثاني الذي حله الشاه محمد علي، وشُكل البرلمان الثالث، وفي منتصف هذه الدورة بدأت الحرب العالمية الأولى (1914م)، وقامت القوات الروسية من الشمال، والإنجليزية من الجنوب، باحتلال الأراضي الإيرانية، ما دعى القوات الوطنية إلى أن تهاجر إلى مدينة قم المقدسة، ومنها إلى غرب إيران، وكان السيد المدرس يُمثل القيادة العلمائية لذلك الجمع. وفي مدينة كرمانشاه اجتمع الوطنيون وشكلوا حكومة مستقلة مؤقتة برئاسة "نظام السلطة" (1916م)، كان السيد الشهيد حسن مدرس فيها وزيراً للعدل والأوقاف، وقد استمرت وزارته حتى احتلال العراق بشكل كامل من قبل الانجليز وتراجع القوات العثمانية. عند ذاك هاجر الوطنيون الإيرانيون إلى تركيا. وهناك التقى السيد بالسلطان محمد الخامس ورئيس الوزراء والوزراء الأتراك. ودارت بينهم مداولات عديدة، حول توحيد الجهاد والكفاح ضد الغزاة المستعمرين الانجليز.
كما شهدت البلاد في ظل فترة المجلس تفكك تمركز السلطة، والضعف المالي للحكومة، وحدوث أعمال الشغب، وتوسع الحكومتين البريطانية والروسية ونمو الأحزاب السياسية.
تجدر الإشارة إلى أن الاهتمامات الرئيسة للمجلس الإيراني من الثالث إلى السادس كانت تتركز حول الاهتمام بالحفاظ على استقلال البلاد وسلامة أراضيها. ودخل في تلك الفترات إلى البرلمان ممثلون مثقفون ومناضلون مثل الشهيد السيد مدرس ومصدق، الذين كرسوا كل جهودهم للحفاظ على استقلال إيران.
وبعد فترة حكم طويلة نسبياً (1960-1955)، تم تشكيل البرلمان الرابع. ومن أهم إجراءات هذه الفترة إلغاء اتفاقية 1919 التي وضعت إيران رسميًا تحت الحماية البريطانية. كما أنه من أجل إدخال إصلاحات مالية واقتصادية وتحديث، يقوم البرلمان الرابع بدعوة واستقطاب مستشارين أميركيين، ومن أجل الاستفادة من الشركات الأجنبية، يُسند امتياز شركة نورث أويل لشركة "ستاندرد أويل" الأميركية، وهو ما كانت تعارضه إنجلترا وواجهته روسيا. وفي هذه الفترة، وبموافقة البرلمان، أصبحت إيران عضوًا في عصبة الأمم عام 1921م، وتم توقيع معاهدة الولاء بين إيران والحكومة البلشفية في روسيا. وفيها ترأس السيد مدرس الأغلبية في المجلس، ولعب دوراً بارزاً في اسقاط معاهدة (1919م)، وكذلك إسقاط حكومة "وثوق الدولة" نفسها، الأمر الذي جعل الانجليز وعملاءهم في الداخل يوجهون رؤوس حرابهم نحوه لإسقاطه، ومن ثم السيطرة على مقدرات الشعب الإيراني المسلم.
وفي الدورة الخامسة للمجلس وبسبب دخول عدد كبير من النواب الذين فُرضوا على الشعب بواسطة سلطة "رضا خان"، الذي كان وزيراً للحرب ــ آنذاك ــ، فقد مثل السيد مدرس رئاسة كتلة الأقلية، وفي هذه الفترة حصل "رضا خان" على موافقة المجلس بتعيينه رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للجيش. وفي نفس الفترة أيضاً استطاع السيد بمساعدة الوطنيين وأبناء الشعب من اسقاط الدعوة إلى الجمهورية التي كان "رضا خان" يريد اقامتها. يقول السيد مدرس بهذا الصدد: "إنني لا أعارض قيام الجمهورية؛ فالجمهورية أقرب إلى النظام الإسلامي في صدر الإسلام من الملكية، ولكنني أعارض قيام جمهورية تكون وسيلة بيد هؤلاء المستبدّين، لظلم الشعب… هذه الجمهورية التي يريدها الانجليز، لا الشعب". وفي هذه الدورة تحجم دور القوى الوطنية بشكل ملحوظ، وأخذ الدكتاتور "رضا خان" يقمع أية مقاومة داخلية، وخاصةً من جانب الأقلية في المجلس، وذلك تمهيداً لإقامة امبراطوريته، وكان له ما أراد؛ فقبل انتهاء الدورة الخامسة للمجلس تم إقرار قانون يقضي بتغيير السلالة الملكية (القاجارية)، على الرغم من مقاومة الوطنيين، وعلى رأسهم السيد مدرس وذلك بسبب الأغلبية التي حصل عليها "رضا خان" في المجلس بالتهديد وشراء الضمائر. وفي الدورة السادسة تم تنصيب "رضا خان" ملكاً على إيران من قبل مجلس المؤسسين الذي تشكل آنذاك.
طغيان رضا شاه، المجلس الثامن إلى الثالث عشر
في زمن تولي رضا شاه السلطة، ساد الجو الاستبدادي البلاد مرة أخرى، وانُتهك القانون الدستوري بسهولة، ونتيجةً لذلك، تضاءل دور البرلمان في السياسة الخارجية إلى حدٍ كبير، وأصبح البرلمان أقل استقلالية، وأصبحت جميع القرارات في جميع المجالات، وخاصةً في مجال السياسة الخارجية، تتم الموافقة عليها عبر آراء رضا شاه الشخصية. ومثال واضح على ذلك توقيع اتفاقية 1933 مع إنجلترا، التي لا تحظى بأي سند منطقي وعقلاني، ولا توفر المصالح الوطنية لإيران بأي حال من الأحوال. بشكلٍ عام، يجب الاعتراف بأنه في هذه الفترة لم يكن للمجلس أي دور في تحديد أهداف وأولويات وسلوكيات السياسة الخارجية، وكان رضا شاه وحده هو الذي يُحدد السياسة الخارجية للبلاد، وكذلكقام رضا شاه بقتل أو نفي خصومه المحتملين والفعليين الذين نجوا من الدستور في المجلسين السادس والسابع. عُدت هذه الفترة هي المظهر الكامل لغياب دور البرلمان وأن دكتاتورية رضا شاه هي وحدها التي كانت تحدد جميع السياسات الداخلية والخارجية للبلاد.
حرية برلمانية نسبياً بعد وفاة رضا شاه
بعد هجوم الحلفاء على إيران، تمت الإطاحة بحكومة رضا شاه، وبجهود محمد علي فروغي خلف ابنه محمد رضا والده. مع زوال دكتاتورية رضا شاه، تم تشكيل مساحة سياسية حرة وتم توفير الأساس لتحقيق نسبي للمثال الدستوري. ومن السمات المهمة لهذه الفترة توزيع السلطة بين القوى المختلفة. الجيش والجنود، الملك والبلاط، القوى الأجنبية مثل روسيا وإنجلترا وإلى حد ما أمريكا، والبرلمان يمارسون السلطة، ومن بينها يلعب البرلمان الدور الأكثر أهمية.
ولعل أهم دور للبرلمان في هذه السنوات هو تأميم الصناعة النفطية، وهو ما حدث بجهود ومتابعة من نواب البرلمان، إذ شكل مصدق وأعضاء الجبهة الوطنية لجنة النفط، التي كلفت ببحث سبل استعادة حقوق إيران. وعلى الرغم من معارضة العسكريين والملكيين، وافق المجلس بالإجماع على خطة تأميم صناعة النفط في عام 1950م، وفي هذه الأثناء سقطت الحكومة وأصبح مصدق رئيسًا للوزراء. ومع وصول مصدق للسلطة أصبحت صناعة النفط الإيرانية وطنية.
دكتاتورية محمد رضا شاه 1944 إلى 1978
بعد سقوط مصدق، تم إحياء دكتاتورية محمد رضا شاه الذي تزايدت سلطته ما أدى بالتالي إلى تضاؤل قوة المجلس. ونتيجةً لذلك، أصبح البرلمان وجميع المؤسسات الأخرى أدوات بيد سلطة الملك.
في هذه الفترة، لم يكن للبرلمان أي دور حاسم في صياغة السياسة الخارجية. وبطبيعة الحال، كان يتمتع البرلمانان الثامن عشر والتاسع عشر بنفوذٍ نسبي بسبب وجود نخب ملاك الأراضي ذات التوجه الإنجليزي وتوازن القوى الأمريكية، هذا التوازن جعل سياسة إيران الخارجية تحاول خلق توازن بين إنجلترا وأمريكا في الثلاثينيات. وكانت السياسة الخارجية ينفذها الشاه شخصياً وبتوجيهاته ورأيه. واعتمد الشاه في حكمه، على العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة وكان دور المجلس في ذلك هو تسهيل التبادلات والعلاقات بينهم، فكان أن ظهر أول رئيس وزراء أمريكي لإيران "حسن علي منصور"، ثم "أميرعباس هويدا". ولعل المعارضة الوحيدة لسياسات الشاه في هذه الفترة كانت معارضة اثنين وعشرين برلمانياً من حزب الوحدة الإيرانية لاستقلال البحرين، وفي الفترة التالية تم عزل هؤلاء النواب أيضاً، وبعد ذلك لم تعد هناك أية معارضة لسياسات الشاه.
المجلس في ظل الثورة الإسلامية
لقد كانت الثورة الإسلامية بمثابة تحول عظيم، كان هدفها النهائي إقامة حكومة إسلامية تقوم على المشاركة الشعبية الواسعة. كانت أيديولوجية الثورة قوية وعظيمة للغاية، وكان قائدها الثوري يتمتع بشخصية كاريزمية. وكان لكل هؤلاء دور حاسم في إطار أداء النظام السياسي المستقبلي، فتم تشكيل مؤسسات النظام السياسي بحيث يكون واجبها النهائي هو تحقيق المثل الثورية للشعب تحت قيادة الثورة.
نستنتج مما سبق بأن المجلس يُعد أحد المؤسسات المهمة التي انبثقت عن الثورة الدستورية للشعب الإيراني، وبسبب الصراع بين الشعب والحكومة في ذلك الوقت، تم تحديد دور الجمعية الوطنية أمام الحكومة، وكان نطاق واجباته ووظائفه واسعًا جدًا. ولكن باستثناء فترتين محدودتين من ضعف نظام الاستبداد، تم نسيان فعالية الجمعية التأسيسية في فترات الحكم الاستبدادي البهلوي تمامًا وأصبح المجلس أحد أدوات الحكومة الاستبدادية لرضا شاه وأيضًا محمد رضا شاه بهلوي واتخذ دوراً هامشيًا ومهيمنًا تمامًا. كما أن السياسة الخارجية للبلاد لم تسلم من هذه القضية ولم يكن بوسع البرلمان أبداً أن يلعب دوراً إيجابياً في تنظيم السياسة الخارجية للبلاد في هذه الفترات.
بعد الثورة الإسلامية المجيدة للشعب الإيراني ومع تحول النظام السياسي ونظام القيم الذي يحكم المجتمع، أصبح المجلس ركيزة شعبية ولدت من رحم الثورة، والتي استحضرت القيم الإسلامية للثورة وكذلك لعبت المشاركة الواسعة للشعب دوراً مهماً وحاسماً، تولى نظام الجمهورية الإسلامية زمام الأمور. من ناحيةٍ أخرى، وبسبب الطبيعة الشعبية للثورة الإسلامية في إيران، فإن الحكومة والبرلمان، باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين للثورة، كانا دائمًا جنبًا إلى جنب ولم يحددا أبدًا أدوارهما في معارضة بعضهما البعض.
وعلى الرغم من وجود اختلافات في الرأي بين بعض البرلمانات والحكومات في بعض الفترات إلا أن جميع أعضاء النظام، بما في ذلك البرلمان، كان لديهم دائمًا توافق في الآراء حول القضايا الرئيسية للبلاد. من ناحيةٍ أخرى، في العقود الثلاثة الماضية منذ الثورة، لعب البرلمان دائمًا دورًا نشطًا وديناميكيًا كأحد عناصر النظام الفعالة في تشكيل القضايا الداخلية وأيضًا إلى حد ما السياسة الخارجية للبلاد ولم يفشل قط في الدفاع عن المصالح الوطنية الإيرانية.