هل باتت الصهيونية عبئاً على الغرب؟
د. أحمد الشامي
كاتب ومحلل سياسي
مع بداية تشكل فكرة إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، كانت الحركة الصهيونية بما تختزنه من فائض في نزعة التطرف والإلغاء هي الخيار الأفضل لدى الغرب، باعتبار أن إمكانية قيام هذا الوطن المستجد واستمراره وكيلاً يرعى مصالح الغرب وسط بيئة تختزن في وعيها الديني رفضاً حاسماً له، هو مطلب يصعب تحققه، ما لم تسند المهمة إلى جهة لديها القابليات والجهوزية لممارسة العنف بإفراط إلى حد التوحش من أجل تطويع الدول والمجتمعات العربية والمسلمة.
لقد أدّت الحركة الصهيونية دورها بإتقان، حيث مارست الإبادة والتهجير القسري للفلسطينيين من غير اليهود، وبالتالي في خوضها للحروب ضد ما يعرف بدول الطوق، بغية إدخال المنطقة بحال من عدم الاستقرار الأمني والسياسي بوصفه مطلباً غربياً حتى لا تستطيع هذه الدول أن تنهض إنمائياً بعد خروجها من دائرة الانتداب، وأن لا تتحد في مواجهة الكيان الإسرائيلي، ما يجعلها تهديداً حتمياً لبقاءه وللمصالح الغربية.
حدثان مهمان شهدتهما المنطقة، عندما انهار الاتحاد السوفياتي الحليف المعلن لدول وحركات المقاومة العربية، وإلى جانب ذلك انطلاق مسار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بدءً من مصر التي كانت رائدة المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي مع منظمة التحرير الممثل المعلن للمقاومة الفلسطينية، وبعدها كرّت السُبحة.
وفيما راح الأمريكي يحتفل بنهاية التاريخ، وبأحاديته الحاكمة للعالم، وأن ثقافة المقاومة في المنطقة آيلة إلى الأفول، برز الإسلام الحركي المقاوم بسرعة لافتة، معلناً استكمال النضال من أجل تحرير فلسطين والمناطق العربية المحتلة من قبل الكيان الإسرائيلي.
لقد راهنت الإدارة الأمريكية على إمكانية احتواء هذه النهضة الحديثة للإسلام المقاوم عبر تفعيل الصراعات العرقية والطائفية بين العرب والمسلمين مستعينة بكل ما يفرقهم في العقيدة وفي أحداث من التاريخ. وكذلك، عبر استخدامها لسلاح العقوبات الاقتصادية، بوصفه السلاح الأفعل في دفع مجتمعات دول وحركات المقاومة للتراجع عن خياراتهم، مستعينة بذلك، بسياسات اقتصادية خاطئة مارستها جهات فاسدة في داخل الدول التي تنسب إلى محور المقاومة.
فجأة، حدث الطوفان الصدمة والمدويّة في 7 أكتوبر، انطلاقا من الحلقة الأضيق والأضعف في محور المقاومة، وبأسلوب عال الذكاء، كونه صوّب نحو فضح مستوى هشاشة الكيان الإسرائيلي، ومن أجل استثارته للكشف عن حقيقة هويته المتوحشة، التي عمل الأمريكي جاهداً لتغييبها عن المشهد كمقدمة لازمة لتسريع مسار التطبيع.
وسرعان ما استجاب الإسرائيلي غرائزياً لهذه الاستثارة، فراح يرتكب المجازر المهولة، وفيما ظنّ الأمريكي ومن حوله بأنّ هذا الأسلوب العنفي الإجرامي سوف يكمل دوره في إرهاب الخصوم ودفعهم نحو الرضوخ والتسليم، عبر مدّ الجيش الصهيوني بأحدث وسائل القتل والتدمير، جاءت النتائج صادمة، فالمدنيين الذين خرجوا من تحت الركام أحياء ليسوا أقل صلابة من الذين خرجوا من الأنفاق مقاتلين، والمقاومة امتدت عملياً لتكون محوراً كبيراً.
لقد انقلب السحر على الساحر، فالحركة الصهيونية التي جيء بها لتكون خادمة لمصالح الغرب، صارت تستدرج الغرب من أجل حماية وجودها ومصالحها، في تعبير واضح عن إحدى أفظع مرتكزات الوعي الإسرائيلي بأنّ العالم إنّما أوجدهم الله ليكونوا خدماً لليهود. وأنّ سياسة التوحش والإجرام الصهيوني صارت تحدث في نظرة المجتمع الغربي لنفسه مقتلاً.
لا يبالغ التحليل حين يقول إن واحدة من التفسيرات لمشاهد التظاهرات الضخمة في بلاد الغرب، بأن مجتمعاته سارعت إلى التنديد بجرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين هرباً من أصابع الإدانة والسؤال عن حقيقة منظومتهم القيمية التي يتباهون بها، إلى جانب الخوف والقلق، بأن تشكل الهجرة المعاكسة للصهاينة نحو بلاد الغرب انتشاراً لهذه الوحوش البشرية في مجتمعاته.
إنّ الأمريكي وحلفاءه في مأزق معقد وكبير، فالكيان الإسرائيلي لا يزال حاجة ضرورية لمصالحهم، ولكن النزعة الصهيونية التي تستحوذ بحسب أكثر الدراسات على غالبية المجتمع الإسرائيلي، تعطي نتائج عكسية ومقلقة. إذ تشير كبرى الدراسات التي تنشر في الحلف الأمريكي بأن التطرف الصهيوني يسهم بشكل فاعل بتوفير البيئة المناسبة لتطور حركات المقاومة وثقافتها، ويقودهم التحليل إلى ضرورة إقدام الأمريكي وحلفائه على خطوات ضرورية، منها:
- إعادة طرح الدولتين كحل نهائي للقضية الفلسطينية بوصفها محوراً أساسياً لحركات المقاومة.
- إعطاء لبنان ما يطلبه على مستوى الحدود الجنوبية، وفي الداخل، كون المقاومة فيه تعد في مقدمة من يقود المواجهة مع المصالح الأمريكية، انطلاقاً من هذه المبررات.
وتبقى الأنظار تتطلع نحو هذا المجتمع الوحشي الذي جرى بناؤه بعناية وبموارد ضخمة على مدى عقود طويلة من الزمن، هل من الممكن احتواؤه، أم أن العالم سيكون على موعد مع طوفان آخر؟