الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • دولیات
  • الثقاقه و المجتمع
  • طوفان الأقصى
  • الریاضه و السیاحه
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون - ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٣
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون - ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٣ - الصفحة ۷

مرجع الشيعة الأول

العلامة الشيخ المفيد.. المعلم والفقيه والمجدد

إن ذاكرة التاريخ تحفل برجال ليس من السهل المرور على أسمائهم من دون توقف لمّا تحمله شخصياتهم من فاعلية وحضور على المسار التاريخي فكانوا الغائبين الحاضرين في ذاكرة التاريخ والأجيال بل أن تكّون التاريخ وحضوره في ذاكرتنا وتشكله في أذهاننا يُنسب الكثير منه إلى هؤلاء الرجال وأحد عمالقة هؤلاء الرجال، هو الشيخ المفيد(رض). فهو أحد أعلام الأمة وعلمائها الأمجاد، هذا الشيخ العالم المجتهد والمؤرخ والمتكلم والمناضل والمجاهد، الذي أفنى عمره في خدمة الإسلام ودفع بالإنسانية والفضيلة حيث القمة والمجد، كان يشق طريقه إلى الحق ويستعد لمقاومة الباطل ومقارعة الجهل. هو معلم الشيعة وفقيهها وزعيمهم، من هذا المنطلق نكتب هذه المقالة؛ لنتعرف من خلالها على هذا العالم الجليل، علّنا نزداد علماً وإقبالاً على تراثه.
سيرته العلمية
كان القرن الرابع للهجرة العصر الذهبي للعلوم الإسلامية، فازدهرت فيه العلوم كافة وما ساعد على اتساع الحركة العلمية في بغداد حين كانت مركزاً للعالم الإسلامي وحاضرته العلمية والسياسية فكانت الرحلة تشد إليها من كل مكان، فنشأت المدارس ودور العلم، وكثرت مجالس المناظرة والجدل، وكانت الحرية أساس هذا الاتساع بعد أن أطلقت الحرية الدينية والفكرية والعلمية وأطلق العنان للفكر والعلوم. فقد عاصر الشيخ المفيد عدداً من الخلفاء العباسيين منهم المطيع لله (الفضل بن المقتدر) للمدة التي كان بها الخليفة (334هـ ـ 363هـ) وكذلك عاصر عدداً من البويهيين وكان في مقدمتهم عضد الدولة. وقد ظهر تميز الشيخ المفيد على مجتمع بغداد في تلك الحقبة الزمنية بسبب ما امتاز به من تفوق في علوم الشريعة كافة فكانت مؤلفاته ومجالسه ودروسه ومناظراته تؤرخ بفخر واعتزاز.  
فقد كان يجمع الأصالة في الفكر والتعمق في فهم العلوم الإسلامية والسعة في الاطلاع. لقد حاز الشيخ المفيد على مكانة علمية جليلة وأحرز التفاف العلماء والمثقفين إليه في بغداد ومن غيرها من البلدان، وقصده السائلون وطلاب العلوم الدينية ينهلون العلوم والمعارف منه وتعلم أساليب الجدل والمناقشة والحوار العلمي الهادف للوصول إلى الحقائق العلمية بأسلوبٍ رصين. فعُد موسوعة زمانه في علوم الشريعة وغيرها، فيقف علماً شامخاً بارزاً بعقله ولسانه وذكائه المتميز بأدب العلماء الهادئ الهادف للإجابة على المسائل ودحض شبهات البعض منهم، فكانت أفكاره تتفتح كتباً موسعة ورسائل موجزة في مختلف علوم الدين ومناظرات علمية وفكرية بقيت ليومنا هذا دروساً ومساراً وشعاعاً يستنار بها في فهم الحقائق مقرونة بأدلة وثوابت رصينة في مقدمتها الكتاب العظيم والسنة الشريفة وغيرها.
المرجعية الدينية للشيخ المفيد
بوفاة أخر نائب للإمام المهدي (عج) علي بن محمد السمري، وجد الشيعة أن قيادتهم انحصرت في فقهائهم، وفقهاءهم لا يتميزون عنهم إلا بقسط من المعلومات، فأصيبوا بفراغ قيادي ضاغط. فاجتمعوا على الشيخ المفيد بعدما وجدوا فيه أكثر من مجرد فقيه. وكانت له حوزة واسعة تضم خيرة مثقفي الشيعة في عهده وأعتنى بتثقيفهم وتربيتهم على التقوى والصلاح، والمشهورين من طلبته الشريفان: الرضي، والمرتضى، والشيخ الطوسي..
وقد سد شيئاً من الفراغ القيادي الذي أصيبت به الشيعة على أثر بدء الغيبة الكبرى، فهو جسد الشيعة علماً ومثلهم قيادة، تركزت ضده التحديات الطائفية، وقد هاجم المتطرفون السنة أكثر من مرة مسجده، وفتكوا بالشيعة وهم يؤدون فريضة الصلاة، وذات مرة هاجموا منزله وأحرقوا مكتبته التي كانت تضم مخطوطات نفيسة جداً، ولكنه صمد بوجه كل تلك الأزمات واستطاع أن يتغلب بحكمته على الموقف دون أن يثير حرباً طائفية.
كما واجتمعت فيه مؤهلات جمعت كلمة الشيعة بلا منازع. فكان أولى من تجتمع عليه كلمة الشيعة بعد الأئمة الأطهار(ع). وهو أول من جسد المرجعية الشيعية، بعد انتهاء الغيبة الصغرى وابتداء الغيبة الكبرى، وهو تصدى للقيادة المرجعية - وبتوجيه مباشر من الإمام المهدي (عج )، الذي كان يخاطبه بهذه الكلمات في رسائله (الأخ السديد والولي الرشيد) و(سلام الله عليك أيّها الوليّ المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين) و(أدام الله توفيقك لنصرة الحق وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق) و (أيّها الأخ الوليّ والمخلص في ودنا الصّفيّ. والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام) و(سلام الله عليك أيّها الناصر للحقّ، الدّاعي إليه بكلمة الصّدق) و(نحن نعهد إليك أيّها الوليّ المخلص المجاهد فينا الظّالمين أيّدك الله بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين) و(أيّها الوليّ الملهم للحقّ العليّ).
زعامته للشيعة ومناظرته للمخالفين
يُعد القرن الرابع الهجري باجماع الباحثين والمؤرخين قرن انبعاث الحضارة الإسلامية وحضارة العلم والكتاب والمدرسة، وكان ذلك بتشجيع الحكام. حيث لم يعطي الحكام العلم لفريق ويمنعوه عن فريق بل أباحوه وسهلوا سبله لكل فريق ولو خالفهم هذا الفريق. وكانت بغداد عاصمة المملكة الإسلامية حينذاك، فكانت مملوءة بكثير من المذاهب. وكان الشيخ المفيد المؤسس الأول لمدرسة أهل البيت(ع)، ولم يكن لأتباع أهل البيت (ع)  قبله مدرسة بهذا المحتوی. نشأت مدرسته نشأتها الأولی ببغداد، وكان هو الزعيم الديني والعلمي الأول الذي استطاع أن يتصدى لرئاسة الشيعة ويستقطب جمهورها، ويلتف حوله أكابر علماء الطائفة، كانت حياته العلمية في أغلب الأحيان في ترويج مذهبه والدفاع والجدال مع المخالفين علی اختلاف فرقهم، حيث كان يحضر مجالس النظر والبحث والجدال في المذاهب، وكان يناظرهم ويجادلهم ويرد عليهم شبهاتهم.
ولقد أتاحت الظروف السياسية والفكرية له أن يتصدى لمناظرة خصومه الفكريين من معتزلة وأشاعرة وزيدية واسماعيلية ومحدثين، الأمر الذي ساعده على كتابة مؤلفات عديدة استدعتها النزعات الفكرية التي نشطت ذلك الحين. ولا يخفى أن مثل هذه المؤلفات التي أحصيت له والتي قاربت المائتي مؤلف بين كتاب ورسالة تحكي مساهماته في العلوم المختلفة والتي كانت هي المعين الذي ساعده على مناظراته ورد خصومه في أغلب الأحيان.
سمحت هذه المناظرات بإعطاء صورة واقعية عن الصراعات الفكرية والاتجاهات المعارضة التي كان الشيخ المفيد أحد الأطراف الفاعلة فيها، كالمناظرة مع القاضي "أبي بكر أحمد بن سيار" في النص والإمامة التي كانت في دار الشريف "أبي عبد الله محمد بن طاهر" وقد أجاب الشيخ المفيد عن سؤال ابن سيار في النص بعد أن أعطى رأيه في هذا الموضوع قال له (ما أحسن ما قلت ولقد أصبت فيما أوضحت)، وقد أورد الشريف المرتضى صوراً من المناظرات التي حصلت في مدينة بغداد في كتابه (الفصول المختارة) ولاسيّما مع المعتزلة والفقهاء كما كانت للشيخ المفيد مناظرات أخرى في الكوفة وسامراء وغيرهما وكان قد ألف رسالة سماها (مسألة في النص الجلي) وهي على صورة سؤال وجهه إليه "أبو بكر الباقلاني" وقد أيد فيها الشيخ المفيد كثرة الرواة بشأن النص على الإمام علي( ع ).
صلة المرجعية الدينية للشيخ المفيد بالدولة البويهية
لقد عاش الشيخ المفيد إبان قيام الدولة البويهية بعد انكماش الدولة العباسية وحاول أن يعمل بكل ما يمتلك من قوة في كسب الأطراف السياسية بجانبه لصالح المذهب الإثنى عشري وعندما تولى "بنو بويه" شؤون السلطة في بغداد حظي الشيخ  المفيد بسبب تشيعهم  بما لم يحظ به غيره من أمثاله من ضروب التكريم والتقدير والإجلال العظيم في الدولة البويهية فكانت له صولة عظيمة بسبب "عضد الدولة"، كما كانت له وجاهة عند ملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع وبلغ من احترام عضد الدولة له أنه كان يزوره في داره ويعوده عندما يمرض.
لقد كانت علاقة السلطان بالشيخ المفيد جيدة تبعاً للجو السياسي الذي عاشته البلاد، حيث قدر البويهيون في بداية تسلمهم السلطة مقامه العلمي ومكانته الواسعة، فأجروا الرواتب لتلامذته وخصصوا له جامع (براثا) في منطقة الكرخ للوعظ وإقامة الصلاة.
ومن الملاحظ إن عضد الدولة البويهي قد بالغ في احترامه حتى يذكر عنه أنه قصد الشيخ المفيد لزيارته، وهناك من يعلل هذا الأمر أي اهتمام عضد الدولة بالمفيد إلى (وجود شخصيات شيعية كبيرة لم تكن على حال معه – أي مع عضد الدولة – وكانت تجنح لتأييد بختيار البويهي – ابن عم عضد الدولة – ضده، وأبرز تلك الشخصيات أبو احمد الحسين بن الطاهر (ت 400 هـ) – وهو والد الشريفين المرتضى والرضي – الأمر الذي يقلل من أهميتهما ويُسهل دحرها – أي العلاقة بينهما – وقد نجح عضد الدولة في إبعاد الشريف أبو أحمد إلى شيراز عام (369هـ) بل وحبسه فيها دون أن يستثير ذلك حفيظة أحد من أصحابه".
وعلى الرغم من كل هذه الوجاهة والجلالة فقد اضطرت السلطات الحاكمة - قمعاً للفتن الطائفية والاضطرابات المذهبية إلى نفيه مرتين خارج بغداد حيث بعث "بهاء الدولة" عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره فوصل إلى بغداد فزينت له وقمع المفسدين ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم ونفى بعد ذلك "ابن المعلم" فقيه الإمامية فاستقام البلد ونفي الشيخ المفيد من قبل الدولة في سنة 398هـ.
وأخيراً، يجب علينا الاهتمام بعلوم هذا العالم الجليل، فندرس منها. ونستقي منه علَماً شامخاً ننتفع به، ونفخر به بين الأمم؛ لأنّه يستحقّ ذلك، ولأنه أعطى الأُمة الإسلامية عِلماً ومعرفة لا مثيل لهما، وهو الذي يُعتبر الممهّد الأوّل لأُصول هذا المذهب بكل مجالاته واهتماماته.

البحث
الأرشيف التاريخي