مع عودة طالبان إلى الحكم
ما هي أولويات السياسة الهندية اتجاه افغانستان؟
الوفاق/ الأحداث الأخيرة في السفارة الأفغانية في الهند وحالة عدم اليقين المستمرة بشأنها، أدت إلى إعادة تسليط الضوء مرة أخرى على مستقبل العلاقات بين الهند وأفغانستان وكيفية تفاعل نيودلهي مع حكومة طالبان. في هذا السياق، تعكس ردود الفعل المرتبكة والمتشككة من وزارة الخارجية الهندية التي تدعو الأطراف فقط إلى حل المشاكل الداخلية في السفارة، إلى حد ما الاستراتيجيات والمقاربات العامة للسياسة الخارجية لهذا البلد تجاه التطورات في أفغانستان على مدار السنوات القليلة الماضية. في هذه الظروف، تكمن القضية الرئيسية في العوامل والاعتبارات الكامنة وراء استمرار حالة الشلل والارتباك التي تعاني منها الدبلوماسية الهندية ذات الخبرة في مجال أفغانستان، وبشكل خاص في مواجهة حكومة طالبان.
الخلفية التاريخية للعلاقات بين نيودلهي وطالبان
بقدر ما تتطور العلاقات الحالية بين نيودلهي وطالبان في ظروف غامضة ومعقدة، كان هناك قدر كبير من الوضوح في هذه العلاقات خلال فترة الحكم الأولى لطالبان على أفغانستان. في التسعينات، لم تتردد الهند في دعمها للحكومة الشرعية للرئيس الراحل برهان الدين رباني وتحالف المعارضة لطالبان. بعد سقوط طالبان وإقامة النظام الجمهوري في أفغانستان، ارتقت الهند إلى مصاف أكثر حلفاء كابول ثقة وقربا، وفي الوقت نفسه أصبحت ثاني أكبر بلد مستثمر في القطاعات التنموية في أفغانستان. وعلى مدار تلك السنوات، امتنعت نيودلهي تماما عن أي اتصال مع طالبان، حتى عندما طلب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي في ذروة فترة النظام الجمهوري من نيودلهي الاتصال ببعض عناصر طالبان التي كانت غير راضية عن الهيمنة الباكستانية، أكد وزير الخارجية الهندي آنذاك رفض هذا الطلب مشيرا إلى أن: "هناك من يميز بين طالبان الجيدين والسيئين، لكنني لا أجد مثل هذا التمييز؛ لأني أعتقد أن لطالبان مذهبا واحدا فقط وهو مذهب العنف". ومع ذلك، بدأت الشكوك الخطيرة حول استمرار هذا النهج في الظهور في السنوات الأخيرة من عمر النظام الجمهوري عندما بدا وشيكا أن تصبح طالبان شريكة في المستقبل السياسي لأفغانستان. فقد أقنعت نصائح كبار المسؤولين مثل كرزاي وخليل زاد المسؤولين الهنود بضرورة إقامة بعض أشكال الاتصال مع طالبان، في حين أن الانهيار التدريجي للنظام الجمهوري من ناحية أخرى، دفع في النهاية المسؤولين الهنود للاقتناع بضرورة إقامة مستويات من العلاقات مع طالبان.
على الرغم من أن التاريخ الدقيق لأول اتصال غير رسمي بين الطرفين ليس واضحا تماما، إلا أنه من الواضح أنه بحلول عام 2019 كان هناك اتصال بين طالبان وحكومة نيودلهي. في حين أُقصيت نيودلهي تماما عن محادثات السلام بين الأفغان عقب التوقيع على اتفاقية الدوحة بين الولايات المتحدة وطالبان، إلا أن الأمريكيين قد لعبوا دور حامي مصالح الهند وأولوا بعض اعتبارات نيودلهي بعض الاهتمام في هذه الاتفاقية. مجرد بدء طالبان الجولة الثانية من حكمها لأفغانستان، أوقفت الهند فورا جميع علاقاتها الرسمية مع السلطة الجديدة في أفغانستان وأنهت تعاونها مع كابول. كان استمرار هذا النهج من جانب الهند من شأنه أن يمثل إلى حد ما هزيمة لسياستها الإقليمية أمام باكستان، وهدرا لاستثماراتها الضخمة على مدى عقدين في أفغانستان، والأهم من ذلك، تحويل أفغانستان إلى نقطة عمياء من المعلومات الاستخباراتية والأمنية بالنسبة لنيودلهي.
وبالتحديد لهذا السبب، عندما أظهرت طالبان استعدادها للتفاعل مع الهند وفقا لبعض المقتضيات وأكدت على نهجها المستقل في السياسة الخارجية، قررت نيودلهي اتخاذ إجراءات مثل إعادة فتح السفارة في كابل بشكل محدود، وإرسال شحنات طبية وغذائية، وتخصيص مساعدات تنموية بقيمة 25 مليون دولار في الميزانية السنوية لعامي 2023-2022، لإيجاد أرضية إقامة أولى اتصالات رسمية مع طالبان. ومع ذلك، فإن أيا من هذه الإجراءات لا يعني أن الشكوك والريبة قد اختفت لدى نيودلهي تجاه طبيعة حكومة طالبان أو ارتباطها بعدوها القديم باكستان. يعكس الأزمة الحالية في السفارة الأفغانية في الهند والشك الخطير لوزارة الخارجية الهندية في التنازل الكامل عن السفارة إلى طالبان وفرض القيود على سفر المواطنين الأفغان وإقامتهم في الهند، مجرد انعكاسات صغيرة لهذه الشكوك.
العوامل المؤثرة على استراتيجية نيودلهي تجاه طالبان
أدت نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلتين الشرقية والغربية وما تلاهما من أحداث 11 سبتمبر 2001، إلى إحداث تغييرات جوهرية في نهج واستراتيجيات الهند في مجال السياسة الخارجية.
في الوقت الذي كانت فيه السياسة الخارجية الهندية متأثرة في المقام الأول ببعض المعتقدات الإيديولوجية المستمدة من عالم ثنائي القطبية الشرقية والغربية (مثل حركة عدم الانحياز) من ناحية، والمعتقدات المتعلقة بنقاشات التنمية (التوتر بين العالم النامي والمتقدم) من ناحية أخرى، دخلت متغيرات واعتبارات واقعية معادلات السياسة الخارجية الهندية في هذه المرحلة. قد تكون هذه في تصنيف عام مقسمة إلى فئتين: المتغيرات الأمنية والمتغيرات الاقتصادية
تأثير عودة طالبان على المتغيرات الأمنية الهندية
يجب القول بالنسبة للعلاقات الهندية الأفغانية أنه منذ استقلال الهند وحتى فترة حكم طالبان الأولى في أفغانستان، كان لقضايا ومشاكل مجال الأمن أقل تأثير على العلاقات الثنائية. كان للبعد الجغرافي وعدم وجود حدود جغرافية مشتركة ومواقف البلدين المتقاربة في القضايا الإقليمية والدولية ولا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع باكستان، تأثير كبير على رسم مثل هذه الظروف. شكلت الفترة الأولى من حكم طالبان في أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، نقطة تحول جلبت المتغيرات المتعلقة بالأمن القومي إلى العلاقات بين نيودلهي وكابول.
جلب حكم طالبان على أفغانستان قضايا مثل وضع المسلمين في الهند وسيطرة هذا البلد على كشمير إلى قائمة أولويات العلاقات بين البلدين. أدى وجود مجموعات مثل جيش محمد ولشكر طيبة وحركة الأنصار في أفغانستان وتدريبها تحت راية القاعدة، إلى آثار مباشرة على الأمن في جميع أنحاء الهند وبشكل خاص أمن منطقة كشمير.
من ناحية أخرى، أدى وجود هذه المجموعات ونشاطها على الأراضي الأفغانية إلى إضعاف موقف الهند أمام خصمها التقليدي باكستان. شكلت عودة طالبان إلى السلطة وإقامة النظام الجمهوري في أفغانستان لمدة عقدين توقف النظرة الأمنية تجاه أفغانستان. لكن عودة طالبان مرة أخرى إلى حكم أفغانستان كانت بمثابة عودة نظرة أمنية للهند وتذكير بذكريات ومخاطر العقدين الماضيين. في الواقع، يمكن لهذا العودة غير المتوقعة أن تؤثر على المجالات الأمنية الهندية من عدة نواحٍ:
أولاً، من خلال تعزيز موقف الخصم التقليدي للهند أي باكستان مرة أخرى وعودة النظر إلى أفغانستان باعتبارها العمق الاستراتيجي لإسلام آباد في مواجهة نيودلهي.
ثانيًا، ستكون الأعباء النفسية التي يمكن أن تخلقها هذه الانتصارات على الجماعات الإسلامية الإقليمية وخاصة بين الإسلاميين الكشميريين، نقطة يجب مراعاتها. يمكن تبرير تهنئة سيّد "صلاح الدين" أحد قادة المقاومة الكشميريين لطالبان وتعبيره عن أمله في مساعدة طالبان للمقاتلين الكشميريين، تمامًا في هذا السياق. أما النقطة الثالثة فتتعلق باحتمال تصاعد نشاط القاعدة مرة أخرى في كشمير. منذ سيطرة طالبان مرة أخرى على أفغانستان، أفادت مراجع عديدة بتصاعد نشاط القاعدة في تلك الدولة. إن حضور واغتيال أيمن الظواهري في كابول أظهر أن هذه الادعاءات لم تكن خالية من أساس.
وفي هذا الصدد، زعم فريق تحليل الأمم المتحدة في تقريره أنه منذ استعادة طالبان السيطرة على أفغانستان مرة أخرى، ركزت القاعدة مرة أخرى على كشمير، وأصبح فرع المجموعة في الهند تابعًا للنواة المركزية المتمركزة في أفغانستان.
رابعا، إن الاعتماد الفكري لطالبان وأنصارها على المدارس الإسلامية الديوبندية في الهند والخلفية التاريخية لعلاقات طالبان مع المقاتلين الكشميريين خلال فترة حكمهم الأولى على أفغانستان، هي مسألة أخرى يمكن أن تبرر مخاوف الهند الأمنية.
إن عدم رضا المسلمين الهنود عن سياسات حكومة "ناريندرا مودي" وإجراءات نيودلهي بإلغاء الحكم الذاتي لمنطقة كشمير، التي صادفت بالتزامن استعادة طالبان السلطة، يمكن أن توفر أسبابًا معقولة لتركيز المجموعات الإسلامية بشكل متزايد على الهند.
تأثير عودة طالبان على المتغيرات الإقتصادية الهندية
أتاح إقامة النظام الجمهوري في أفغانستان وتزامنه مع نهج نيودلهي الجديد في اعتماد سياسة خارجية واقعية موجهة نحو الاقتصاد، بابًا جديدًا لتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين البلدين. استندت نيودلهي إلى هذا الأساس لبرامجها الاقتصادية حول محورين: أولاً محور العلاقات والتعاون الاقتصادي المباشر مع أفغانستان، وثانياً الاستفادة من الإمكانات الاقتصادية الإقليمية والدولية لأفغانستان. في محور العلاقات والتعاون الاقتصادي المباشر بين كابول ونيودلهي، تمكنت الحكومة الهندية من تحقيق أهدافها مع أقل قدر من العقبات. لكن بالنسبة للاستفادة من القدرات الاقتصادية الإقليمية والدولية لأفغانستان، بدا أن الهند تواجه عقبات متعددة غالبًا ما تكون خارجة عن سيطرتها.
في هذا الصدد، حالت الخصومات التاريخية بين الهند وباكستان دون بعض المشاريع الاقتصادية الرئيسية ذات المشاركة بين البلدين (مثل مشروع خط أنابيب السلام والاستفادة من الممر الترانزيتي الأفغاني الباكستاني للوصول إلى أسواق آسيا الوسطى). في الوقت نفسه، كان للخلافات عبر الإقليمية أيضًا تأثير كبير على خطط الهند. في مثل هذه الظروف، لا شك أن عودة طالبان إلى السلطة تسببت في مضاعفة صعوبات متابعة نيودلهي لنهجها الموجه نحو الاقتصاد في أفغانستان. على الرغم من طلب حكومة طالبان من نيودلهي مواصلة الاستثمارات الضخمة وتنفيذ المشاريع الاقتصادية في أفغانستان، وعلى الرغم من إصرار الكثيرين داخل الهند على إقامة صلة أوثق مع طالبان للحفاظ على المصالح الاقتصادية في أفغانستان، إلا أنه من الواضح أن الموقف الحالي للهند يختلف اختلافًا أساسيًا عن ظروفها في عهد الجمهورية. في هذا الصدد، بصرف النظر عن مسألة ضمان أمن الاستثمارات الهندية في أفغانستان، توجد شكوك حول دوافع طالبان لإقامة هذه الصلة وكذلك تماسك مواقف مسؤولي حكومة طالبان.
إضافة إلى ذلك، إن نشاط الصين البارز في أفغانستان ومحاولات حكومة طالبان الأخيرة للانضمام إلى مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ستضر بلا شك بالمكانة الاقتصادية للهند في تلك الدولة. وباختصار، يجب الاعتراف بأن نهج الهند الموجه نحو الاقتصاد في أفغانستان قد وصل إلى نهاية الطريق في ظل استعادة طالبان السلطة وبالنظر أيضًا إلى بعض التغييرات التي طرأت على معادلات المنطقة والعالم، أو على الأقل واجه طريقًا مسدودًا حاليًا.
المصلحة الهندية
وبهذه الطريقة، مع خروج الاقتصاد إلى حد كبير من مدار العلاقات بين نيودلهي وكابول، يبدو أن "الأمن" هو من يتولى زمام المبادرة في مستقبل العلاقات بين الهند وأفغانستان، ويجب وضع التعاون الأخير بين نيودلهي وحكومة طالبان في هذا السياق. في مثل هذا الإطار، لا يبدو أن الهند لديها أي خطة لمواجهة سلطة طالبان. لأن عدم الاستقرار في أفغانستان يمكن أن يوفر مرة أخرى بيئة خصبة لنمو وازدهار الجماعات المتطرفة مثل القاعدة و غيرها.