من مجرد ذكرى إلى ضرورة متجددة
أنشطة اليوم العالمي للفلسفة.. إحياءات فعالة لتطوير الفكر البشري
منذ العام 2005 والعالم يحتفي، في الواحد والعشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، باليوم العالمي للفلسفة، وذلك تقديراً لـ"القيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري في كلّ ثقافة وفي كل فرد"، كما تشير منظّمة يونسكو.
وفي هذا السياق، تُنظّم مؤسّسات ثقافية وإسلامية عربية عدداً من الفعاليات التي تنتهز هذه المناسبة لتنظيم لقاءات وحلقات وندوات من أجل التفكير ببعض القضايا الراهنة أو الأساسية، ومن ذلك التفكير بالفلسفة نفسها، في يومها العالمي، والعمل على توسيع جمهورها وتعريف الناس بها.
ومن هذه الفعاليات يحيي "معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية" في بيروت ضمن البرنامج الدوري لمنتداه الفلسفي هذه المناسبة، عبر تنظيم ندوات بالتعاون مع عدد من المؤسسات الثقافية المحلية والعربية والإسلامية، يستضيف خلالها الباحثين والمهتمين بالفلسفة من البلدان العربية والإسلامية للحديث عن مسائل مثل الفلسفة الإسلامية ومستقبلها، النظام الفلسفي لمدرسة الحكمة المتعالية أو الفلسفة والتحليل النفسي، وغيرها، وسنستعرض في هذه المقالة بعضاً من مواضيع هذه الندوات التي لن تستطع الإحاطة بمعظمها.
النص الفلسفي وإشكالية الترجمة
أدرك المعهد أهمية العلاقة بين الفلسفة والترجمة فلا وجود لفلسفة من دون ترجمة، ولا قيمة لترجمة من دون فلسفة، إنّهما الشيء نفسه يزكّيان بقية الثقافة والعلوم، وتشهد على ذلك حلقات الترجمة منذ عهد الكندي، وشروحات الفارابي. وقد أوكل للترجمة مهمة نقل الحضارات، فضرب المسلمون المثل الأعلى في النشاط الفلسفي والعلمي آنذاك، وترجموا علوم الأولين وطوروها، وابتكروا علومًا جديدة ونشروها، وقدّموا للبشرية أنموذجًا لخير أمة تشهد على ذلك علوم ابن سينا وفيلسوف قرطبة ابن رشد، حتى أعلن الغزالي تكفير الفلاسفة وجرى التحريض عليهم، فبدأت النكبة وحُذف العقل
من أرض الإسلام.
شدد المشاركون في الندوة على أن الترجمة لم تكن يومًا نقلًا من لسان إلى لسان آخر، بل كانت تثاقفًا وانخراطًا في العالم، وشغل حيّز من مساحات المعرفة الممتدة، وباتت أكثر من أي وقت مضى رهانًا وحضورًا في مجرى التاريخ الكوني. وعلى إنّ نشأة الحركة الترجمية في العالم الإسلامي مختلفة عن تجربة الغرب، ولكنّ الأمانة كانت في صلب إشكاليات الترجمة. والملفت في الترجمة الإسلامية أنّها لم تكن تربط الأمانة بالقدسية. والنصوص التي ترجمها العرب كانت علوم الأقدمين، ولم يكن لديهم عقدة دونية تجاه اللغات المصدر لأنّهم كانوا يترجمون نحو لغة هدف وهي العربية التي كانت بنظرهم اللغة الأشرف لارتباطها بالقرآن الكريم.
لذا من الضروري التمييز بين تجربة الغرب وتجربة العالم الإسلامي حول العلاقة بين الترجمة والفلسفة، وتسليط الضوء على بعض مواطن الاختلاف التي من شأنها تغيير بعض جوانب الإشكاليات المطروحة والتي قد تستدعي حلولًا مختلفة. موضحة أن تعريف الترجمة يختلف بين العربية والأجنبية، فالعربية تنظر إلى الترجمة باعتبارها ضربًا من ضروب التفسير، بينما الجذر اللاتيني لكلمة Translate لا يتضمن هذا المعنى، بل يحمل معاني النقل والعبور، ما يعني أنّ الترجمة في أصلها العربي لا ترتبط ابتداءً بالحرفية، بل بنقل المعنى.
فما زال العالم العربي ينادي بالأمانة التقليدية في مدارس الترجمة مع أنّ الغرب نفسه قدّم نماذج نقدية لها، وسبب ذلك يعود إلى أنّ هذه المدارس حالها حال الجامعات عمومًا التي تأسست ونصب أعينها النموذج الغربي، وقلدته من دون النظر إلى خصوصيات مجتمعاتها وإرثها الحضاري، سعيًا منها لتحقيق التقدم الذي حققه الغرب.
لذا يجب على الباحثين أن يكونوا جريئين كما يذكر الامام السيد علي الخامنئي(حفظه الله) على "إيراد إشكالات" على المفاهيم التي تصلنا من الغرب، وهذا لا يعني ألا نستفيد من تجاربه، بل أن ننظر في ما توصّل إليه بعين النقد، ونلتفت في الوقت ذاته إلى خصوصياتنا. فإن مفهوم الأمانة بمقارباته المطروحة لا يُعالج إشكاليات تؤرق الترجمان المتدين عمومًا، والمسلم خصوصًا؛ لأنّ المقاربات المختلفة تسعى إلى نيل رضا طرف دون آخر ضمن إطار الأخلاق المهنية، لكنّها لا تُلقي بالًا للحالة التي تتعارض فيها الأخلاق المهنية مع الأخلاق الشخصية للمترجم، وتصب تلك المقاربات في خانة ما يمكن أن يسمّى "أمانة أفقية" قطعت علاقتها بالسماء ولا تلبي حاجات المجتمع المتدين. لذلك تبرز الحاجة إلى طرح جديد يتناول مفهوم "الأمانة" من منظور المجتمع غير المنسلخ عن الدين، بل والباحث في الدين عن حلول مشكلاته باعتباره رجعية أخلاقية.
«الأدب الفلسفي»
تطرق المشاركون في هذه الندوة إلى أنّ الوجود الإنسانيّ لا ينفكّ عن السؤال الفلسفيّ، إلا أنّ الفلسفة التي بدأت تساؤلًا وتأمّلًا في طبائع الأشياء، وبحثًا عن أجوبة لظواهر وحوادث واجهت الإنسان جعلته يغور في ذاته أكثر فأكثر لاستكناه الوجود والقبض على العالم ونظمه عقليًّا، سرعان ما وجدت نفسها تخاطب نُخبًا، ولا تستطيع أن تدخل الوجدان، فركبت جناح الخيال وبنت عالمًا من الصور، لتستطيع أن تتسلّل إلى عقول الناس، فكان الأدب مركبتها السحريّة التي امتطتها، مستفيدة بما لديها من مرونة وقدرة على نقل وتركيب الصور الذهنيّة المختلفة. واذا كانت الفلسفة مجالًا للأفكار، يستخدمها المختصون، فالنص الأدبيّ يفتح لها باب الفهم من زاويتي الشكل والمضمون، ليجعلها قادرة على الوصول إلى المتلقّي عبر الأساليب الرمزيّة والتصويريّةـ لذا يحول الأدب الفلسفي الأدب إلى وجود ذهنيّ وفكريّ وجدانيّ تتفاعل مع الآخرين تأثيرًا وتأثّرًا بفعل اللغة، من هنا جاء اهتمام معهد المعارف الحكميّة بهذه القضية كونها تمثّل اهتمام الماضين والآتين...
ولفت المشاركون إلى وجود تراث فكريّ أدبيّ مجهول، يحتاج إلى عمل دؤوب لإخراجه إلى الوجود بعدما جرى تغييبه عن قصدٍ أو غير قصد، والعمل في هذا المجال سيؤدّي إلى إعادة الكشف عن شخصيات علميّة ساهمت في النهضة العلميّة والأدبية في العصر الحديث، ولكنها تعرّضت للاهمال، ومن هذه الشخصيات السيد محمّد رضا فضل الله الذي كتب وبشكل مبكر قصة فلسفيّة تحت عنوان "الرسالة السمكيّة". الذي يستحضر في رسالته ابن سينا ونظريته حول النفس وتقسيماتها، ويعيد إنتاجها
بقالب قصصيّ.
إنّ الكلام عن الأدب الفلسفي في هذا السياق بخصوصيّة عربيّة إسلاميّة، لا يعني تقوقع هذه الخصوصية، بل على العكس فكثيرًا من هذه الأعمال وجدت طريقها إلى العالمية لأنها حاكت وجدان الإنسان، والإنسان واحد وإن تنوعت المجتمعات.
الفلسفة الإسلامية.. الواقع والمآل
لأن اليوم العالمي للفلسفة، هو يوم للاحتفاء بها، وليس لإحياء ذكراها كما تحي ذكرى الراحلين، كان موضوع ندوة المعارف الحكمية الفلسفة الإسلامية، واستشراق مستقبلها ومصيرها. تمحورت النقاشات في هذه الندوة حول الدراسات الفلسفية والأكاديميات الفلسفية في الوطن العربي: الواقع والمأمول، فوجد الباحثين المشاركين فيها أن مفهوم الواقع هو مراوغ فهل هو آني أم هناك تجنب في الحديث عن الدراسات الفلسفية دون ربطها بالعربية أو الإسلامية، وماذا يعني المأمول، فهل هو ما نطمح إليه أم أنه المتوقع في إعادة تشكيل الفلسفة وأسلمة المعرفة” فهناك وجود أفخاخ في الخطاب الفلسفي العربي، إضافة إلى اتهام الفلسفة وإدانتها في بيئتنا، ومثلها ارتباط الفلسفة بالأيديولجيا.
تحدث في هذه الندوة الشيخ علي رضا آل بويه رئيس قسم الفلسفة والكلام في المعهد العالمي للعلوم والثقافة الإسلامية، الذي قدم مداخلته تحت عنوان “الحراك الفلسفي في إيران، تعرض فيها للوضع الفلسفي ماضيًا وحاضرًا وفي المستقبل في إيران”، انتقد فيها من “يرفض وجود الفلسفة بالمطلق، لأن الفلسفة تتلاقى مع الحكمة والتفكر”. كما عرض “للرؤية المستقبلية للفلسفة في إيران”. فقد اعتبر أن “إيران هي مهد الفلسفة الإسلامية، وقد أدت دوراً في نشر الفلسفة وتخريج الفلاسفة أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهم”. ولفت إلى أن حال الفلسفة شهدت صعوداً وهبوطاً، مُفصّلًا في مرحلة أفولها في الحوزات الدينية قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران”، مبديا “أسفه لحصر التعليم في الحوزات بالفقه دون الفلسفة ما خلق صعوبات متعددة لدى طلبة هذه الحوزات”. مؤكداً على “دور الإمام الخميني (قدس) والعلامة الطباطبائي في إعادة إحياء تدريس الفلسفة في الحوزات”، لافتًا إلى “ما واجهه الإمام الخميني (قدس) من مصاعب كثيرة إلى حد التكفير بالتوقف.
العلّامة المصباح، فيلسوف الهوية
قامت هذه الندوة بتسليط الضوء على الذات المعرفيّة التي حملها سماحة العلّامة طوال عمره الشريف، والتي جاهد على المستوى الفكري والثقافي والعملي من أجل أن يُنضجها وينشرها بشكلٍ أو بآخر. فإذا أردنا أن نتعرّف إلى الهوية الإسلاميّة التي أراد أن ينشرها، علينا أن نتعرف إلى مراحل النضج لديه، والتعلّم والارتقاء المعرفي، فقد حملت المرحلة الأولى طابع التلمذة على العلوم والمعارف الفلسفية، وشكّلت الّلبنات الأولى للهويّة المعرفيّة عنده.
والمرحلة الثانية سلطت الضوء على الجهاد الفكري والتعليمي الذي قام به أيام الشاهنشاه، الذي أثقل إيران بالكثير من أعباء تفريغ المضمون الإسلامي من قيمه، والذي سعى لإجراء أنظمة من الاستبداد والإفقار للمجتمع الإيراني. فلقد كان له الدور الكبير في بثّ الوعي، وتأصيل المفاهيم الإسلامية بالبيئة المحيطة به عبر الفلسفة، أو عبر إطلالاته القرآنية، كما وتصدّيه للنزعات الإلحادية آنذاك.
أمّا المرحلة الثالثة فكانت للتعرف على مرحلة الثورة الإسلامية، وقيام الدولة الإسلامية المباركة، والتي عمل فيها العلّامة الأستاذ مصباح اليزدي على البناء المنظومي للبحث في شؤون الدين والولاية، فكان نظام من الرؤية القائمة على بناء القيم الإسلامية في المجتمع، في جهاده واقتداره وعزّته، يرتبط بشكل أساسي في أصل الدين الذي له، وعليه بنى كل حياته ومنظومته الفكرية.
كما وبيّن الباحثون أنّ فيلسوف الهوية الإسلامية المعاصرة الشيخ اليزدي جعل من النص بُراق علمٍ ومعرفة يكسر كل الأقفال والأصنام، وأنّ النص الهادي لا يقبل توحّش العقل، كما لا يقبل أن يقيّد نفسه بحدود المادة والجسد ودلالاتهما الرمزية، بل ولا الخيال والاعتبار والأوهام. وينبغي أن يكسر حاجز الحقيقة ويستكشف سننها ونظامها.
ختاماً أجمع المشاركون في هذه الندوة على أن أبرز ما حدّده سماحة العلّامة الأستاذ اليزدي هو أكثر أطروحة تقوم على معرفة الهوية الذاتيّة، وتجعل من الإنسان المحور لأيّ بناء مجتمعي وحضاري.