موطن التربيّة الرّوحيّة والإيمانيّة والإنسانيّة
دور المساجد في تنشئة جيل مقاوم
د. رُلى فرحات
إنّ للعبادة أثراً عظيماً على المسلم في تربيته التربيّة الحقيقيّة وفي تقويّة إيمانه، وشحذِ عزيمتِه، وتعزيز مبادئه وقيمه وكذلك في ثباته. وفي الحقيقة فإنّ المسجد هو موطن التربيّة الرّوحيّة والإيمانيّة والخلقيّة والإنسانيّة والعلميّة للطفل في مختلف مراحل تربيته ونشأته، ودوره لا يقل أهمية عن دور المدرسة والأسرة في تربية النشء وإخراج جيل واع ينفع نفسه ودينه ومجتمعه. كذلك هو من أقوى الدعائم والركائز والأركان في بناء المجتمع السّليم وليس المسلم فقط، لذلك كان المسجد هو أول ما بناه الرسول محمد(ص) في المدينة المنورة، كيف لا وهو المربّي الأول. وقد حث الرسول على دور المعلم العلمي والتربوي وقد شجع على طلب العلم من المهد إلى اللحد وفي كل أصقاع الأرض.
كان المسجد عبر التّأريخ الإسلامي ملتقى للأبطال ومدرسة للأجيال، فقد خرج من بين جنباته الخطيب والمحدث والفقيه والداعي إلى سنة الرسول(ص) والمفسر للقرآن والعالم به، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. فأخرجت المساجد آنذاك رجالاً كانوا قادة متميزين واستطاعوا تغيير وجه التاريخ، وأصبحت سيرتهم أنموذجاً لم تعرف البشرية مثله ومازلنا حتى اليوم نُعلم في المدارس سيرهم ونحلل فتوحاتهم وبطولاتهم ومواقفهم الإنسانيّة والحقيقيّة في الدفاع عن الحق ودحض الباطل. تلك المساجد العظيمة التي أخرجت هؤلاء العظماء بنيت من الطّين ومن سعف النّخيل، مساجد لم تكن مُزخرفة ولا مُبهرجة ولا مكيفة ولا منمقة، من الممكن أن يتواجد فيها سراجاً وأحياناً لا يوجد، وقد أخرجت عظماء كثر في الفقه والكيمياء والفيزياء والطب والفراسة ومختلف العلوم.
أين مساجدنا اليوم من مساجد الأمس؟!! أصبحنا نهتم بها شكلاً وننسى مضمونها وواجبات محتواها. «العبرة بجوهر الدّار وليس بقشورها». لذلك فالمسجد هو تسمية إسلاميّة لمكان العبادة، (السجود) الذي يعني الخضوع الكامل لله سبحانه، ذلك الخضوع الذي يأخذ أسمى صوره في الصلاة.
المسجد له أهميّة كبيرة للكبار والصغار
وللمسجد أهميّة كبرى ليس للكبار فقط، وإنما كذلك للصغار (أبناء المسلمين)، إذ يجب أن نربي أبناءنا على حب المساجد، ونصطحبهم معنا إليها منذ نعومة أظافرهم فيتعلمون زيارتها ويتربون في رحابها، حيث تُثقّف عقولهم وتُهذّبَ أرواحهم، وتُزكى نفوسهم. وعليه يجب أن نغرس في قلوب أطفالنا حب العلم وفضله، وفضل أهل العلم وما إلى ذلك من أفعال الخير، ويجب أن نعلم أبناءنا الآداب والأخلاق التي يجب أن نتحلى بها في بيوت الله، وخارجها ويجب أن نكون نحن الكبار قدوة لأبنائنا الصغار في التحلي بالأخلاق وآداب المسجد. فنعلمهم العقيدة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة مع الآخرين، والصدقة وفضلها، وكيفية الوضوء والآداب والبر بالوالدين، ورحمة الأيتام والمساكين والفقراء، والرحمة بالحيوان، ونعلمهم حب الله ورسوله، وقرآنه وأهل بيته، وكذلك حب النّاس الصّالحين. من ناحيّة ثانية علينا أن ننتبه على أطفالنا فنحذرهم من التّعصب والغلو، ومن الغيبة والنميمة والكذب وعواقبها الوخيمة، وهنا في مقارنة بسيطة نرى هذا الجيل في ظل التطور الحديث، نشاهد اهتماماته وأخلاقياته وسلوكياته لأنه (ولا أعمم بالطبع) قد بعّد عن تربية المساجد وصار نتاج تربية الإنترنت وهزلية التطور .
مكانة المسجد في الإسلام عظيمة جداً، فهو الرمز الأساسي في حياة المسلمين، وكل الأنشطة التي يزاولونها بين جدرانه تقوي عقيدتهم، وتجعلهم مطبوعين بطابع الحيوية والإنجاز، فتعلي كلمتهم وترفع من شأنهم. فوجوده وشكله المعماري يُجسد عظمة الإسلام، وعزّته وهيبته وقوته، وهو أداة تركيز الإيمان في قلوب النّاس، ووسيلة إطمئنان النفوس، وانشراح الصدور ليس عند المسلمين فحسب بل عند الكثير من معتنقي الديانات الأخرى... وهو يعتبر الجهة الخالدة التي تمارس فيها الشعائر الدينية بدقة وانتظام وضبط.
ولتحقيق تربيّة الأطفال يجب أن يصطحب الآباء أبناءهم إلى المساجد ويُشجعونهم على زيارة المسجد المتواصلة، وتعزيز بعض المصطلحات وتعليمهم النظافة والنظام، وأن يراقبوهم ويوجهوهم ويساعدوهم لما فيه صالحهم.
وسائل تفعيل إحياء رسالة المسجد
- إقامة الدروس الشرعية والدورات العلمية المُوجّهة لأبناء الوطن لكي يتعرفوا على أصول دينهم...
- إلقاء المحاضرات والندوات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم بحيث لا تركز على شريحة معينة من المجتمع بل يجب أن تتناسب مع الصغير والكبير. والصلاة هي من أهم المواضيع العامة التي يحتاجها الناس لتعلمها ولإقامتها ولأدائها في جماعة، خصوصاً فريضة الفجر، والّتي هي تُدخل السكينة وتشرح الصدور وتُغذي العقول وتُعلّم الصبر والنظام والإنضباط والإنتماء.
- إلقاء بعض المواعظ والكلمات بين فينة وأخرى ومُوجّهة لمختلف الأعمار في المجتمع ليستفيد منها الجميع وليتعلموا الكثير عن المفردات المجتمعية ولتقوية شخصية الأولاد بما يتناسب مع الدين الإسلامي العظيم. كل ما تعلم الولد الصلاة والصوم وأركان الدين باكرا كلما انسجم معها وابتعد في الكبر عن الرذائل والسخافات ورفع بنفسه عن الإنحلال الأخلاقي وتوجه نحو الإرتقاء كما نرى اليوم في أطفال غزة الذين يتحدثون بلسان فقيه عالم ويُدافعون بالبطون الخاوية ويُقاتلون بالصبر ويُواجهون بالإيمان ويستقبلون الموت بإبتسامة رضا لأنهم تتلمذوا على الرفعة لا مع الذل وعلى مناهضة الظلم لا الاستسلام..إنّهم جيل سوف يُدرسه التاريخ لاحقا ويُخلده الأدباء والفنانون والرسامون والموسيقيون، كيف لا وهم أصل الصمود وعنوان الإنتصار!!!
- تعويد الصبيان على ارتياد المسجد وتعليمهم آداب المسجد، وتعويدهم الحضور للمسجد ليستفيدوا ليس فقط من أداء الصلاة وحسناتها بل تعويدهم على مشاهدة منظر التلاحم بين المسلمين بمختلف فئاتهم، ولمسهم معالم التآخي بين المصلين، فينشأون على مثل هذه المفاهيم، وإذا حضروا الجمعة تعلموا أدب الإنصات وحُسن الاستماع، إلى خطبة أو محاضرة، فيتعلموا الأحكام الشرعيّة، والآداب الإسلاميّة باكرا والتي سينقلها إلى أهل بيته لاحقاً وهو فرحا بما تعلم اليوم ليُصبح رجلا فاعلا غدا وذو قيمة وها نحن نراهم اليوم على ثغور غزة مرابطين عازمين على النصر مستميتين في الدفاع عن أرضهم وعرضهم «لا تراجع ولا استلام» لإحقاق الحق والذود عن الدين... نعم هؤلاء هم خريجو المساجد الذين دخلوا التاريخ وخُلّدت بطولاتهم...
- إنشاء مكتبة للإستعارة والمطالعة بداخل المسجد حيث يحتاجها طلبة العلم للإستفادة من المراجع والكتب الموثوقة.
- تعيين أئمة وخطباء من أهل العلم والإصلاح لتفعيل دور المسجد لأهمية الدور المنوط بهؤلاء القائمين على بيوت الله. إذْ لا يمكن للمسجد أن يقاوم الجهل والإنحراف والبدع والإنحلال الأخلاقي وغيرها من مُغرّرات الدنيا إلا إذا كان المسؤولون عنه ذوي مستوى عالٍ من الثقافة الإسلامية والوعي الإسلامي، وكذلك أُختيروا بعناية ومسؤولية خاصة لمساندة الجّيل الصّاعد وفي خضمّ تطور الحياة المُتسارع...
دور المسجد في بناء كيان الأمة
المسجد وكما ذكرنا هو أول المؤسسات الّتي تحمل خاصيّة أساسيّة في المجتمع المسلم التي انطلق منها شعاع العلم والمعرفة في الإسلام. فمن خلال المسجد يحصن المجتمع من انتشار الفاحشة والرذيلة، قال تعالى: «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (العنكبوت:45).
ومن أهم وظائف المسجد التربوية أنه يعوِّد المسلمين على التزام الجماعة، والارتباط بها فيستشعر المسلم أهمية أن يكون مع إخوانه، يؤدون شعائر دينهم، وهم في ذلك سواسية كأسنان المشط حين وقوفهم أمام الله سبحانه وتعالى إذ أنهم موحدون متساوون. وفي المسجد الذكر والصلاة والقراءة والخطب والتعليم والعلم، كما وأنّه يجتمع المسلمون فيه لأمر دينهم ودنياهم ولعقد الألوية والرايات ولتبثُّ روحُ الوحدة والاجتماع بين أفراد المجتمع. ومن خلال المسجد تَعُمُّ روحُ الأخوة والتعارف بين المؤمنين، إذْ أنّ التّعارف قاعدة من قواعد الآداب الإسلاميّة قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات:13)، بل هو ضرورة من ضرورات التعامل بين الناس.
ومن خلال المسجد ترد الشبهات والأباطيل التي يثيرها خصومه، بأسلوب مقنع حكيم، بعيداً عن المهاترة والسباب، وتُصحح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام، وتنشط مواجهة الأفكار الهدامة لتنصهر فيها النفوس، وتتجرد من علائق الدنيا، وحواجز الكبر والأنانية، وفارق الرتب والمناصب...
والمساجد هي المنطلق الأكبر للدعوة إلى الله، وقال الله عنها: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» (النور:36-37).
وهنا نذكر المقاومين في غزة كخير مثال حي على أهميّة المساجد في تربيّة وتنشئة جيل صالح مقاوم يستبسل في الدّفاع عن دينه الإسلامي الذي يتمثل بالخير والحب والتسامح والتّوحيد، عن دينٍ يحفظ كرامة الأسير وعرض الأسيرة ويأمر بمعالجتهم بإطعامهم وبإشرابهم على أفضل ما يكون، كما أمرهم الرسول(ص) منذ 1400 سنة.
رجال غزة اليوم هم أطفالها بالأمس، وأطفالها اليوم هم رجالها في الغد. غزة شعلة لن تنطفئ طالما فيها مؤمنون مسلمون يُواجهون بالصبر وبالإيمان ويتحملون الصعاب ويثقون بأنّ الفرج آتٍ ولعله قريب.
إنّهم مسلمون مؤمنون، بالأرض لا يتهاونون ولا يتخاذلون، صابرون يتحملون مصائب كل الويلات وهم على ثقة بالله عز وجل وبأنّها مرحلة وستنتهي بالنصر إن شاء الله فالصبر حليفهم هذه عقيدتهم وهكذا يجب أن يكون...
أطفالٌ تربّـت في أحضان أمّهات عظيمات وفي كنف آبآء أتقياء وفي باحات مساجد تنضح بدروس العفة والإرتقاء... رسول الله معلم في قرآن يحوي المعجزات،... وتسألون من هم أولئك الأبطال؟ّ! إنهم يا سادة أسود في البيداء يحملون إرث الأنبياء، يُحاربون بدون ملل أو كلل ويدافعون عن الأرض والعرض ويذودون عن دين الله ويستبسلون... نعم إنّهم خريجوا المساجد برتبة فدائيين على قيد الحياة... نعم الحياة تليق بمن يسقي الأرض بدمائه ثم ينهض رغم الآلام والوجع والحزن والفقدان، ليقول «أنا مؤمن، أنا فلسطيني، القدس لنا وإن طال بنا الزمان وكثر من حولنا الخذلان فسيقصر وسننتصر وسنُرجع القدس حرة حتما.. وسنصلي بها على صرخات الله أكبر ومع قرع أجراس كنيسة القيام مهد المسيح(ع) المُبشر بالرحمة وبالتسامح وبالمحبة بين أفراد شعب لم يفقهوا إلّا مص الدماء ولم يزالوا يقتلون وينكلون... علّ الفرج قريب»!!!