تطور الشعر الفلسطيني وخلوده
طوفان القصائد يجتاح العالم دعماً للأقصى
قدّم المثقفون الفلسطينيون رغم أقسى ظروف القمع والأسر الثقافي من قبل الصهاينة المجرمين نموذجاً تاريخياً للثقافة بكل ما فيها من وعي وصمود. تلك الحالة التي لم تكن أبداً ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، فقد ازدهر الشعر الوطني الفلسطيني بعد انطلاق المقاومة الفلسطينية، وانبعاث الثورة الفلسطينية في منتصف الستينات. وتزامناً مع عملية طوفان الأقصى البطولية والأحداث التي تلتها، شهدنا مشاركةً واسعةً ودعماً كبيراً للشعب الفلسطيني المظلوم، فقام الشعراء من جميع أنحاء العالم بإنشاد أشعار خالدة، كما ذكرنا في مقال سابق، بعض أشعار شعراء إيران، واليوم نتطرق إلى المسيرة الأدبية التي سارت عليها خطى المقاومة، ونشأتها، وتأثيرها خلال العقود الماضية حتى يومنا هذا، ونرى أن هناك أشعاراً كثيرة تنبأ بها شعراء المقاومة الفلسطينية وهي حيّة وكثير منها تنطبق على الأحداث التي تجري اليوم، من قتل ودمار ومجازر يرتكبها الكيان الصهيوني ولكن نشهد صمود المقاومة، فنذكر بعضها.
النضال بالكلمة
مع ظهور بوادر الجشع الصهيوني للإستيلاء على الأرض الفلسطينية خلال أربعينيات القرن الماضي؛ ومع الشعور بالخطر الذي بات يقلق بال الفلسطينيين- أصحاب الأرض؛ تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية، وتبلور وعي وطني تلازم مع ظهور ثلة من المثقفين أخذوا على عاتقهم النضال بالكلمة لتعزيز روح الصمود، وصيانة الهوية الوطنية من خطر الاندثار.
وتمكن شعراء وأدباء ومهتمون في مجال الثقافة في تلك الفترة من تثبيت هذه الهوية على مستوى العالم، واستجابوا لنداء المرحلة، ولمشاعر غَزَلَتها ظروف الاحتلال الذي صار واقعاً على الأرض بفعل عوامل لا تتصل بالفلسطينيين.
وكان المقاومون في ذلك الوقت يهربون أعمالهم بالعديد من الوسائل التي كانت تتحدى كل جبروت السجن والسجان. وأطلق على هذا النوع من الإبداعات الأدبية "أدب السجون"، وصنف جزء منها تحت اسم "شعر السجون".
مبدعو شعر المقاومة الفلسطينية
هناك الكثير من المبدعين سواء في المجال الأدبي أو الفني، لنرى عظماء من صلب المعاناة، وخلال العقود الماضية سطع نجم العديد من الشعراء الذين اتخذوا من الشعر وسيلة للتعبير عن قضيتهم وإيصال صوتهم للعالم أجمع، فتمكنوا من خلال قصائدهم تحدي الحصار والأسلوب الغاشم الذي فرض على الشعب الفلسطيني، ولهذا نستعرض عددا من قصائد شعراء المقاومة.
- محمود درويش: "يعشعش في حضن والده طائراً خائفاً/ من جحيم السماء، إحمني يا أبي/ من الطيران إلى فوق! إن جناحي/ صغير على الريح/ والضوء أسود/ محمــد، يريد الرجوع إلى البيت/ من دون دراجة/ أو قميص جديد/ يريد الذهاب إلى المقعد المدرسي/ إلى دفتر الصرف والنحو، خذني/ إلى بيتنا، يا أبي، كي أعد دروسي/ وأكمل عمري رويداً رويدا/ على شاطئ البحر، تحت النخيل/ ولا شيء أبعد، لا شيء أبعد../ محمـــد، يواجه جيشاً، بلا حجر أو شظايا/ كواكب/لم يلتفت للجدار ليكتب، حريتي/ لن تموت...
- سميح القاسم: تقدموا تقدموا/ كل سماء فوقكم جهنم/ وكل أرض تحتكم جهنم/ تقدموا يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم/ وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم/ تقدموا تقدموا/ بناقلات جندكم وراجمات حقدكم/ وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا/ لن تكسروا أعماقنا..
- فدوى طوقان: وهي الأبيات التي كتبت على قبرها: "كفاني أموت عليها وأدفن فيها/ وتحت ثراها أذوب وأفنى/ وأبعث عشباً على أرضها/ وأبعث زهرة إليها/ تعبث بها كف طفل نمته بلادي/ كفاني أظل بحضن بلادي/ تراباً، وعشباً، وزهرة...
- توفيق زياد: بِأَسْنَانِي/ سَأَحْمِي كُلَّ شِبْرٍ مِنْ ثَرَى وَطَنِي/ بِأَسْنَانِي/ وَلَنْ أَرْضَى بَدِيلاً عَنْهُ لَوْ عُلِّقْتُ/ مِنْ شِرْيَانِ شِرْيَانِي/ أَنَا بَاقٍ/ أَسِيرَ مَحَبَّتِي .. لِسِياجِ دَارِي/ لِلنَّدَى .. لِلزَنْبَقِ الحَانِي/ أَنَا بَاقٍ/ وَلَنْ تَقْوَى عَلَيَّ
جَمِيعُ صُلْبَانِي..
شعر المقاومة الفلسطينية معراج قنطرة الوعي
شكّل شعر المقاومة الفلسطينيّة، كما أطلق عليه الأديب المناضل الشهيد غسّان كنفاني، معراج قنطرة الوعي ومدار تثبيت الهويّة والانتماء وترسيخهما، وشحن وشحذ الهمم وتعميق الوجدان الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ، منذ فجره المساهم في إبقاء الرّوح الفلسطينيّة حيّة وجامعةً، رغم التشظّي الرّهيب الّذي أصاب جسد الأرض والجغرافيا والتاريخ.
ولعلّ الجانب الفكريّ والأدبيّ والفنيّ الذي أبدع فيه الشعب الفلسطينيّ رغم نكباته، شكّل أحد أهمّ العوامل التي أبقت جذوة القضيّة مشتعلة عبر قرن، كون الإبداع ولّاد طاقة تمنح الإنسان تطلّعاً أعمق لمكنونات ذاته الفردية والجمعية مجتمعين.
إغتيال رموز شعر المقاومة
أدب المقاومة قد أزعج قادة الكيان الصهيونيّ، إلى درجة اغتيال بعض رموزه المنخرطين في التنظيمات والفصائل المقاومة، ومنهم غسّان كنفاني وكمال ناصر، وغيرهما.
ومن هنا، كانت الكلمات المشهورة عن موشيه ديان بعد حرب 1967، وهو يعلن بكل وضوح أنّ قصيدة يكتبها "شاعر مقاوم" تعادل عنده عشرين "فدائياً"، وقد صرّحت غولدا مائير بأنّ التخلّص من غسّان كنفاني بالنسبة إلى إسرائيل يعادل التخلّص من كتيبة محاربين.
وقد بدأ العالم العربي بالتعرّف على شعر المقاومة في الداخل الفلسطيني، عبر كتابات غسّان كنفاني عن هذه الظاهرة، حيث أصدر كتابین درس فیهما الأدب العربي في فلسطین.
طوفان الأقصى في الشعر
هناك أشعار كثيرة أنشدت بعد عملية طوفان الأقصى وأقيمت أمسيات شعرية وندوات ثقافية في مختلف البلدان، منها الشاعران المغربيان عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان يصدران الطبعة العربية من "أنطولوجيا للشعر الفلسطيني الراهن"، التي تقدّم أصواتاً شعرية جديدة بعضها من غزة المحاصرة.
وتضم اللائحة شعراء لهم صيتا عربيا وحضورا دوليا؛ لكنّ بينهم أصواتاً ما زالت قيد التخلّق، وأخرى لا يتجاوز حضورها الشعري صفحات الـ "فيسبوك". لكن العبرة بطراوة التجربة وقدرتها على فتح الشعرية الفلسطينية على أفق جديد، قد يبدو للبعض ملتبساً مشوّشاً، لكن الخطو باتجاهه حرّ جريء.
وقدّم ياسين عدنان لهذه الأنطولوجيا التي صدرت قبل الجرائم المتواصلة اليوم على غزة بالقول: "كيف نذهب باتجاه شتات الشعر الفلسطيني الراهن الذي يعرش اليوم مثل لبلاب في أرواح الأجيال الجديدة، ولا نتهيّب؟ ففلسطين ليست حدوداً معلومةً يمكن الاطمئنان إليها بعدما توزّعتها أرجاء الوطن وبلدان اللجوء. أما أصواتها الشعرية الجديدة فصارت تبرعم في كل القارات. فلسطين اليوم تبدو أوسع من خريطتها، بعدما هرّبها أبناؤها إلى "أوطانهم" الجديدة وغرس كل فلسطينه هناك حيث يقيم. لكن فلسطين ليست جغرافيا فحسب، وإنما هي فكرة أيضاً. فما بال الفكرة التليدة التي تغنّى بها شعراء المقاومة تتفتت نكسةً في إثر نكبة؟ ومع ذلك فالقصيدة ما يعنينا، وعلينا أن نتلمّس تحوّلاتها في دفاتر الشعراء وعلى جدرانهم الإلكترونية".
وأما قصيدة "طوفان الأقصى" للشاعر أحمد سعيد باربيد، جاء فيها: "نطق السلاح فأخرس التضليلا/ وأزاح ليلا من دجاك طويلا/ ياشعب غزة فيك عزة أمة/ تتلو الكتاب وتقرأ التنزيلا/ أبديت في ساح الإباء عزيمة/ أضحى بها جيش العدو عليلا/ وأتت إليه البارجات ضحى فما/ أغنته عن كأس المنون فتيلا/ فأمامه "القسام" ترسم خطة/ ألغت بها التطبيع والتخذيلا..
كما أنشد الشاعر سعيد عبيد قائلاً: "السبت أو فرحة بين سيدة الكرامة.. الفرحة نير مندفع.. من وجه القدس إلى المريخ.. شكراً ملء الدنيا، شكراً.. يا أجمل سبت في التاريخ".
من جهة أخرى أجمع باحثون على أن القصيدة الشعرية الفلسطينية المقاومة "استطاعت أن تثبت وجود الإنسان الفلسطيني على أرضه، وأن تحمل قضيته الوطنية وتبرز مأساته وتفضح البطش الذي يمارسه الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني".
ديوان "طوفان الأقصى"
كما صدر ديوان "طوفان الأقصى" و شارك الشعراء العرب بقصائدهم فيه، والذي يضمّ أكثر من 50 شاعرا وشاعرة من جميع أنحاء البلاد العربية، ناصروا فلسطين بوجعهم وحماسهم وجرأتهم.. من السعودية واليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين ومصر والأردن والكويت.
ومن بين الأسماء الجزائرية التي شاركتْ في ديوان "طوفان الأقصى"، الذي أعلنتُ عنه في وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) وأيضا تم نشر الإعلان في الجرائد والصحف، الشاعرة الجزائرية "عائشة جلاب" تزمجرُ قائلةً في قصيدتها المعنونة بـ "مَنْ يوقف الطوفان": "من يُوقِفُ الطّوفــــان مَن ذا يقْدِرُ/ أتُراهُ وَحْيٌ مِن سمـــاءٍ يسْطُر/ تنثالُ مِنْ مسرى الرّسولِ ملائكٌ/ مِثلَ الأبابيلِ التي لا تُقهرُ..
الختام
وقد أنجبت فلسطين العديد من الأصوات الشعرية المقاومة التي "صنّفت في مصاف شعراء الحداثة بفضل تحكّمهم في اللغة التي هي أساس الدفاع عن الأرض".
وللختام، يبقى شعر المقاومة الفلسطينيّة بكلّ أجيالها تجربة وحالة وطنيّة وقوميّة وإنسانيّة استثنائيّة، كاستثنائيّة القضية الفلسطينية، التي لا تزال جرحاً عربيّاً وإنسانيّاً مفتوحاً على مصراعَي قرن كامل من الزمن المعاصر، الذي يشهد عمر أطول احتلال، للأرض والإنسان والمقدّسات، ولكنّ شعر المقاومة الفلسطينيّة وأدبها كانا ولا يزالان النّاجز والشاهد الذي يؤكّد أن الاحتلال لم يستطع بكلّ قدراته وإمكاناته تغييب الوعي، وتجريف الذّاكرة ومحو الهويّة والانتماء والصّمود. فعلى هذه الأرض ما يستحقّ الحياة.