في ظل اعتراف النظام البهلوي
العداء للصهيونية.. ما يجمع بين إيران وفلسطين تاريخياً
الوفاق / عقب الإعلان عن تأسيس الكيان الصهيوني في عام 1948م دعا "آية الله الكاشاني" الشعب الإيراني إلى مناهضة الكيان المحتل ، كما دعا مسلمي العالم إلى دعم الشعب الفلسطيني، أيضاً ألقى الشهيد "نواب صفوي" بالتزامن مع آية الله الكاشاني خطاباً قوياً دعا فيه الشعب والمسؤولين إلى الانتفاضة، من جهته أصدر "آية الله البروجردي" بياناً دعا مسلمي إيران وكافة البلدان الإسلامية للاجتماع لمناهضة الصهاينة، كما أرسل "آية الله السيد محمد بهبهاني" رسالةً إلى البابا زعيم الكاثوليكيين في العالم واتخذ موقفاً بوجه الإعلان عن تأسيس الكيان الصهيوني، كما أعلنت مختلف طبقات الشعب استعدادها للتوجه للنضال والتعبير عن الغضب لتأسيس الكيان الصهيوني.
تعارض بين الموقف الشعبي الرافض والموقف الرسمي المؤيد
بعد الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني تعمقت الفجوة بين الموقفين: الإيراني الرسمي الذي اعترف بالكيان الصهيوني ونسج معه علاقات على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية وبين الموقف الشعبي الإيراني المتضامن والداعم لكفاح الشعب الفلسطيني. وقد برز التناقض بين هذين الموقفين في عدة مناسبات فإثر وقوع نكبة فلسطين خرجت في العاصمة طهران، في ذلك العام، تظاهرات شعبية ضخمة تندد باغتصاب فلسطين تماماً كما حدث في العواصم العربية، وقاد "آية الله الكاشاني" الحركة الشعبية الإيرانية التي طالبت بالتصدي للصهيونية، وعبرت الاستجابة للتحدي الصهيوني عن نفسها في حركة تأميم النفط، وقد شهدت إيران شأن الدول العربية ودول إسلامية أخرى حملات شعبية إبان حرب فلسطين لجمع الأموال وإرسال المتطوعين. وكان أبرز تمظهر للإنحياز الشعبي الإيراني مع القضية الفلسطينية ردة فعله عند إعلان نظام الشاه الاعتراف بالكيان الصهيوني وسمح له بتمثيل سياسي وتجاري في إيران. فقد عم الغضب قطاعات واسعة من الشعب الإيراني على نظام الشاه واعتبر كثيرون تعاونه مع الكيان الصهيوني بمثابة طعنة موجهة إلى كبريائهم واعتزازهم بدينهم. وهنا نستحضر أبسط المواقف التي دلت على مدى مناصرة الإيرانيين للقضية الفلسطينية ما شهدته الساحة الإيرانية من سخط نظراً لما أقدمت عليه وسائل الاعلام على إقامة مباراة كرة القدم بين إيران والكيان الصهيوني، الأمر الذي كان له الشعب بالمرصاد ورفضه بشكلٍ تام وقامت التظاهرات الرافضة له في إيران.
تجريم التعامل مع الكيان الصهيوني
هذا وقد عبر عن الموقف الرافض لهذه العلاقة كبار رجال الدين الشيعة في إيران منذ وقت مبكر وكانوا أكثر الشرائح الاجتماعية صلابةً وثباتاً في موقفهم الرافض لأي مساومة في مواجهة الخطر الصهيوني، فهم قد عبروا عن رأيهم مجاهرةً بتحريم التعاون مع الكيان الصهيوني مهما كان نوع التعامل، وهم اعتبروا أي شكل من الاحتكاك والتعاون مع الصهاينة مخالفاً للشرع الإسلامي، ولا يجب أن يغرب عن بالنا مدى أهمية قوة الكوادر الدينية في المجتمع الإيراني والدور الكبير الذي تقوم به، إذ من شأنهم أن يحركوا عامة الشعب بخطاب ديني مؤثر يتماشى وعقولهم، ومن بين هؤلاء العلماء نذكر بعضهم في هذه المقالة:
الشهيد السيد نواب صفوي ثائراً على طريق القدس
دعت جماعة "فدائيان إسلام" بقيادة الشهيد السيد محمد مجتبى نواب صفوي-الذي أعدمه نظام الشاه رمياً بالرصاص بسبب مواقفه المعارضة للنظام- وبالتزامن مع "آية الله الكاشاني" الشعب الإيراني للانتفاضة ضد وجود الكيان الصهيوني، ودُعي الشهيد إلى مؤتمر إسلامي عُقد في بيت المقدس لمناقشة قضية مصادرة الأراضي الفلسطينية من قبل اليهود، فألقى خطابات ثورية باللغة العربية في المؤتمر دعاهم فيها إلى تحرير القدس والقيام ضد الحكومات العميلة للاستعمار، وعندما ذهب الشهيد مع سبعين من المشاركين في المؤتمر لجولة في الأراضي المحتلّة، وقف فجأة على صخرة وألقى عباءته جانباً ودعاهم للصلاة في مسجد خرب يبعد كيلومتراً واحداً عن القدس، وقال: "من استعدّ للشهادة فليأت معنا". فتحرك الشهيد أمام حيرة جنود الاحتلال المسلّحين مع المشاركين الذين أخذتهم الدهشة والخوف، متوجّهاً نحو المسجد، وعندما وصل إلى المسجد أذّن ووقف للصلاة، فاقتدى به جميع المشاركين في المؤتمر. وهناك التقى بالملك الأردني حسين، وقال له كما نشرت مجلة "المثقّف" الأردنية: "عليك أن تسير في طريق إصلاح بلادك وفقاً لأحكام الإسلام، وأن لا تهادن أعداء الله". ثمّ أضاف قائلاً: "إنّني لم ألتق بأيّ سلطان في حياتي، لكن الواجب الشرعي دعاني اليوم إلى الالتقاء بك، ودفعك إلى ما فيه مصلحة المسلمين".
كما زار الحدود مع العدو الصهيوني وأعلن في بيان:" أن دماء "فدائيان إسلام "الشجعان تتوق إلى الإراقة دعماً للإخوة المسلمين في فلسطين مشيراً إلى تجنيده 500 شخص من طهران لإيفادهم لمحاربة إسرائيل، ولاقى ذلك تأييداً شعبياً آنذاك. ولقد اجتمع هؤلاء الشباب يوم في بيت "آية الله الكاشاني" وكانوا ينتظرون التوجه إلى فلسطين بفارغ الصبر، لكن الحكومة منعتهم من التوجه إليها".
وقد زار الشهيد بعض الأقطار العربية سنة 1954م، والتقى بياسر عرفات حين كان يومها طالباً في القاهرة، إذ يقول عرفات عن لقاءه هذا: لقد شدّني الشهيد السيد نواب صفوي إلى العمل الثوري الحقيقي من أجل القضية الفلسطينية حينما قال لي: إنّ مكانك هو في فلسطين وليس في القاهرة. ثمّ يضيف عرفات: وحينها بدأت أفكاري تختمر لوضع البداية المطلوبة في انطلاقة المقاومة الفلسطينية، وفعلاً جاءت بعدها حركة فتح. وفي القاهرة أيضاً التقى بالسيد قطب وآخرين من قادة الاخوان المسلمين، ثمّ ألقى في جامعة القاهرة خطاباً ثورياً ضد الإنجليز، وحمل فيه المسؤولين المصريين مسؤولية العمل لتأميم قناة السويس، ونادى في الوقت نفسه إلى إلغاء المعاهدة النفطية بين إيران وأمريكا، وصمّم من هناك على إعدام أركان النظام الفاسد الذي يحكم ايران من أمثال أميني وزاهدي وتيمور بختيار وغيرهم، وكان الذي حصل أنّ مظاهرات الطلبة المصريين انطلقت على إثر خطابه الذي ألقاه بالعربية وهي تندّد بالاستعمار وعملائه ممّا حدا بالسلطات المصرية إلى طرده من مصر.
دعوة آية الله البروجردي شعب إيران لنصرة الفلسطينيين
دعا "آية الله البروجردي" وهو من الشخصيات المهمة والمؤثرة في العالم الإسلامي في بيانٍ له باللغة العربية مسلمي إيران وكل الدول الإسلامية للاجتماع والتعبير عن كرههم للصهاينة والدعاء لانتصار الإخوة المسلمين الذين يحاربون في جبهات القتال. وشكا آية الله البروجردي في بداية البيان ما يشاهد من ظلم بحق المسلمين في باكستان على يد المشركين وفي فلسطين على اليهود، إلى الله (سبحانه وتعالى)، ونوه بصدق كلام الله حول شدة عداء اليهود للمسلمين وأعلن بأن اليهود يريدون:"أخذ الثار من كل ما شاهدوه من حسنات المسلمين، وممارسة القتل والإرهاب بحق الصالحين، وقتل أطفالهم وانتهاك حرماتهم، وتدمير معابدهم وبيوتهم، فلا يخافون من ممارسة الظلم والجريمة تجاه أي شخص، ويستمرون في الانتهاكات".
وأكمل حديثه: "أسال الله (تعالى) بأن ينصر المسلمين، ويذل هؤلاء الذين لا يحترمون حقوق المسلمين. وفضلاً عن هذا طالب مسلمي إيران والعالم:" بأن يدعوا الله كي يذل اليهود وينصر المسلمين".
رسالة آية الله بهبهاني إلى بابا الفاتيكان
أبدى سماحة "آية الله سيد محمد بهبهاني" من علماء طهران آنذاك في رسالة إلى بابا الفاتيكان في عام 1948م رغبته في إبداء ردة فعل تجاه القضية الفلسطينية. وأشار في رسالته إلى الأخبار المحزنة التي تأتي من فلسطين تركت تأثيرات على العلماء في إيران، معتبراً أن إثارة الفتن على يد اليهود وإثارة الشر هي ما يميزهم في تاريخ البشرية، ويضيف بأنه بحكم التاريخ يجب اعتبار هؤلاء القوم أعداءً البشرية". وفي الرسالة اعتبر أن دعم بعض الشعوب المسيحية لهم والاعتراف بالحكومة الصهيونية تثير الحيرة وقال:" ماذا حل بأوساط علماء الدين من المسيحية وبدلاً من توعية الحكومات التي تمد يد الصداقة إلى أعداء المسيحية والترحيب بهم، وإيقاظ الشعوب المسيحية، يتخذون الصمت ولا يقومون بواجبهم الديني".
مواقف علمائية رافضة للاحتلال ومؤيدة للقضية الفلسطينية
كذلك كان لعلماء الدين الإيرانيين مواقف مؤيدة وداعمة للفلسطينيين لمواقف واعتداءات صهيونية على الشعب الفلسطيني ومقدساته، وفي هذا السياق أصدر المرجع الديني السيد "شهاب الدين مرعشي نجفي" بياناً أبدى فيه تأثره من هزيمة حزيران/ يونيو 67 ودعا إلى مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، وقال أنه وعلماء إيران” يستنكرون الاعتداء الاسرائيلي الغاشم على اخواننا المسلمين ويسألون الباري (عزوجل) أن يرد كيدهم إلى نحورهم وأن ينصر المسلمين، ونأمل من إخواننا في الدين أن يتجنبوا تقديم أي عون أو مساعدة أو علاقة مع اليهود، وأن يحافظوا على وحدتهم واتفاقهم”.وفي أعقاب حادثة حرق "المسجد الأقصى" سنة 1969 أصدر المرجع الديني الإيراني "السيد محمد رضا الكلبايكاني" بياناً قوياً ندد فيه ” بما يفعله أعداء الإسلام المحتلون للأماكن الإسلامية المقدسة من صهاينة ويهود معتدين” وأعلن الحداد العام".
وفي إطار الإنحياز العلمائي للقضية الفلسطينية قبل الثورة الإيرانية، كتب رجل الدين والكاتب، "علي دَواني"، عام 1956 قصيدة بالفارسية عن فلسطين استهلها بــ: "عجباً من هؤلاء القوم المشردين المجرمين المسيئين، كم من خططٍ خطيرة يحملون لهذا العالم".
كما عارضت نخبة علماء الشيعة الإيرانيين المقيمين في العراق مشروع تقسيم فلسطين ووجهوا برقية بهذا الخصوص إلى عصبة الأمم ووزارة الخارجية البريطانية جاء فيها: "نحن الممثلون الروحيون للمذاهب الإسلامية نُعلن عدم رضانا واعتراضنا على قرار اللجنة الملكية بشأن تقسيم "فلسطين" البلد الإسلامي العربي العزيز ونعتبر ذلك ضربة موجهة إلى قلب الإسلام والعرب".
من جهتهم قال علماء الدين في مدينة قم المقدسة بأنه لو لم يترك الصهاينة حربهم مع العرب في فلسطين، فإنهم سيقومون بمقاطعة بضائعهم، ويُعلنون لكل مسلمي العالم بالامتناع عن شراء أي بضاعة يهودية وعدم بيع أي سلعة لهم.
لم يقتصر دعم شعب فلسطين على رجال الدين، بل كان كل من "علي شريعتي" وجلال أحمد" من المدافعين أيضاً عن القضية الفلسطينية. بالنسبة للمفكر علي شريعتي، الذي قال أن الكيان الصهيوني صنيعة الغرب في الشرق الأوسط، وفلسطين جزء لا يتجزأ من العالم الإسلامي، والتعامل "الإسرائيلي" الهمجي مع الشعب الفلسطيني يوجب على الجميع دعم شعب فلسطين. لقد ساهم شريعتي بالخطاب السياسي الإيراني حول الصهيونية بالتركيز على العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية في الأوساط الدينية، فيقول: لسنا أعداء اليهود بل "إسرائيل"، وليس بسبب الدين، لكن بسبب كونها دولة فاشية وقاعدة للاستعمار الغربي والامبريالية."
ختاماً أن كبار علماء الشيعة ومراجعهم كانت لهم دائماً مواقف داعمة للحق الفلسطيني في مواجهة العدوان الصهيوني، معتبرين ذلك واجباً شرعياً لنصرة الاسلام والمسلمين، وقد عبّروا عن ذلك بشتى الطرق وفي جميع مراحل القضية الفلسطينية وتطوراتها.