الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • دولیات
  • الثقاقه و المجتمع
  • مقالات و المقابلات
  • الریاضه و السیاحه
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وستة وأربعون - ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٣
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وستة وأربعون - ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٣ - الصفحة ۸

حرب تشرين التحريريّة.. تأريخٌ للمستقبل العربيّ


جو غانم
كاتب ومحلل سياسي
كيفما كان الواقع العربيّ الآنيّ والموقّت هذه الأيّام، فإنّ حرب تشرين الأوّل/أكتوبر التحريرية لم تكن مجرّد جولة أخرى من جولات الصراع مع العدو الذي يحتل فلسطين وأجزاء غالية من أرضنا العربية في سوريا ولبنان، بل كانت، ولا تزال، نقطة انطلاقٍ في تاريخ العرب ومستقبلهم؛ نقطة اتّكاءٍ للإرادة العربيّة التي تستطيع، متى شاءت، أنْ تستند إلى حقيقة قدرتها على الفعل والإنجاز وتغيير التاريخ وحجز المكان الأكثر احتراماً تحت الشمس.
في تلك اللحظة، عند الساعة الـ2 و10 دقائق من بعد ظهر يوم السبت، السادس من تشرين الأوّل/أكتوبر، عام 1973، حدثَ ما لم يصدّقه العدو للوهلة الأولى، وما لم يتوقّعه في أي حال من الأحوال، وفقاً لما كان لديه من فائض قوةٍ وغطرسة ودعم عالميّ، على رغم كل التحذيرات والمعلومات التي جهد بعض الجواسيس العرب في إيصالها وتأكيدها. من هنا تحديداً، تبدأ أولى علامات الخصوصية التاريخية المهمة جدّاً لهذا الحدث الفارق.
فبعد الهزيمةٍ الساحقةٍ والمُهينة في حزيران/يونيو من عام 1967، والتي تحوّلت إلى نكبةٍ جديدةٍ حفرت عميقاً في نفوس العرب من المحيط إلى الخليج الفارسي، وشكّلت هزيمةً نفسيّة خطيرة لعشرات الملايين منهم، لا تقلّ خطورتها أبداً عن هزيمة الميدان، وتركت جرحاً ظنّ الجميع، ما عدا قلّة قليلة، أنّه سيحتاج إلى عشرات الأعوام كي يندمل في الميدان، ودفعت عدداً من رموز "النخبة" العربية حينذاك إلى اعتماد تلك الهزيمة مرثيّةً أزليّة لأمّة العرب الآيلة إلى الضياع والفناء.
إنّ قرار المبادرة في دمشق والقاهرة إلى الهجوم العسكريّ هو، في حدّ ذاته، تحوّل فاصل في التاريخ العربيّ المعاصر، فكان الزمن زمن السطوة الإسرائيلية، زمن "الجيش الذي لا يُقهر"، زمنَ "نستطيع احتلال بلدانكم بفِرَقٍ موسيقية"، زمن التعميم والتكريس لنظرية أنّ العرب عاجزون، وأنّ حزيران/يونيو هو بوصلة العصر، وهو الدليل الدامغ الذي يوضح شكل مستقبل العرب والمنطقة، وبالتالي أيضاً وحتماً، زمن فرض القوة الأميركية الاستعمارية في المنطقة العربية، من خلال تحويل قاعدتها العسكرية الإجراميّة المتقدمة في فلسطين، إلى مركز القرار والهيمنة في المنطقة.
لذلك، كانت المبادرة العربية إلى الهجوم على الجبهتين السورية والمصرية بمثابة إعلان حرب على القوة الاستعمارية الرئيسة وعلى كلّ أعوانها وحلفائها في العالم، ولم تكن هجوماً على الجيش الصهيونيّ الذي جرى تجميعه من جهات الأرض الأربع، ليفرض ذلك الواقع، فحسب.
التحوّل التاريخيّ الثاني، والذي لم يشهد العرب مثله منذ مئات الأعوام، كان تقاطر الكتائب العسكرية القتالية من كلّ البلدان العربيّة، وذلك ما يجب التركيز عليه وعدم إغفاله دائماً. لقد اضطرّ كلّ حاكم عربيّ إلى الوقوف عند كرامة شعبه وإعلان مشاركة بلاده في الحرب المجيدة التي تعني كل إنسان عربيّ من المحيط إلى الخليج الفارسي، ذلك لأنّ الفلاح المغربيّ في أقاصيّ الريف، كما العامل في أصغر معمل في حلب، والصياد العربيّ عند شواطئ عدن، كلّهم كانوا يشعرون بأنّ هزيمة حزيران/يونيو أذلّته وقصمت ظهره شخصيّاً، وأنّ ضياع الأرض العربية في فلسطين وسوريا ومصر ولبنان والأردن يعني ضياع الأرض التي يقف عليها في مستقبل الأيام، وأنّه، كابن أمّة كريمة، تعرّض لامتهان كرامته وامتحان وجوده. لذلك، لا يزال السوريون يستذكرون بسالة ضباط "التجريدة المغربية" وجنودها في هضاب الجولان، ويتحدثون بفخر كبيرٍ عن شجاعة الجزائريين والتونسيين والعراقيين، الذين قَدِموا من كلّ ناحية من الأرض العربية، من أجل فرض وجودهم الكريم على هذه الأرض، ولم يبخلوا بأرواحهم ودمائهم من أجل ذلك. كذلك، يفعل المصريون وهم يتذكرون شجاعة إخوتهم من الجنود والمقاتلين الذين قدموا من عموم بلدان الخليج الفارسي ليقاتلوا جنباً إلى جنب مع الجندي المصريّ.
التحوّل الثالث والمهمّ جدّاً في ذلك الحدث العربي والعالميّ الفاصل، هو انتصار العرب، بما توافر من عتاد وسلاح، على السلاح الأميركيّ والغربيّ الأحدث والأمضى في ذلك الوقت، والذي كان الغرب أغرق به الكتائب الصهيونية على مدى أكثر من 25 عاماً، وتلك مصيبة كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية الاستعمارية الحليفة، والتي كانت تواجه الاتحاد السوفياتي وحركات التحرر والدول النامية في العالم بكل ما أوتيت من قدراتٍ وقوة.
وتحطيم أسطورة تفوّق السلاح الغربيّ على أيدي العرب يعني هزيمة قاسية للغرب في ذلك الصراع العالميّ المرير. أمّا الانتصار على القاعدة الاستعمارية، "إسرائيل"، فيعني دحر الغرب وهزيمة إرادته المهيمنة على هذه المنطقة حتى وقت طويل جدّاً، وسقوط كل مشاريعه التوسعية والناهبة، والتي أقيمت من أجلها قاعدة الإجرام تلك. لذلك كلّه، فعلت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وعدد من الدول التي تدور في هذا الفلك، كل ما يمكن فعله لمنع السوريين والمصريين، والعرب عموماً، من تحقيق نصرٍ حاسم ونهائيّ في تلك الحرب المجيدة.
ولم تكتف تلك القوى بإنشاء جسور جويّة متواصلة ودائمة لمدّ الصهاينة بأحدث وأمضى أنواع السلاح والعتاد وبالرجال والمقاتلين أيضاً، بل فعّل كل هؤلاء قدراتهم السياسية لاختراق قرار الحرب والتحرير لدى القيادات العربية. واستطاع وزير الخارجية الأميركي حينذاك، هنري كيسنجر، الذي لم يُخفِ يوماً صهيونيّته الفاقعة وعداءه للعرب وحقوقهم، أنْ يُحدث ذلك الخرق في الجبهة السياسية المصريّة، ليُحوّل الرئيس أنور السادات حرب التحرير إلى "حرب تحريك"، وليكتفي من التاريخ بنصرِ شخصيّ لا يتجاوز بعض كلمات المديح والثناء من مراكز القرار الاستعماري حول العالم.
يُصرّ قائد المقاومة العربية ورمزها في هذا العصر، السيد حسن نصر الله، على أنْ يستذكر حرب تشرين التحريرية ومعانيها في كلّ مناسبة، وأنْ يشرح للأجيال الحالية قيمة ذلك الحدث وأهميته في تاريخ الأمة ومستقبلها، وهو ما فعله قبل أيام فقط في آخر خطاب له، يوم الاثنين الفائت، في ذكرى المولد النبويّ الشريف، حين وصف حال كيان الاحتلال وقادته يوم هجوم الجيوش العربية في السادس من تشرين، بحيث عبّر عن "اختناق إسرائيل بكلّ ما للكلمة من معنى" في تلك اللحظات، وعن بحث قادة الاحتلال استخدام السلاح النووي للانتحار وهدم ما أمكن من المعبد فوق رؤوسهم ورؤوس العرب المنتصرين. لقد وصف السيّد نصر الله حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بالنصر التاريخيّ الذي منعت الولايات المتحدة وقوى الغرب، بكل ما أوتيت من قوة تدميرية ومن قدرات سياسية، أنْ يتحول إلى نصرٍ حاسم.
وحين يتحدث قادة المقاومة، في سوريا ولبنان وفلسطين وإيران والعراق واليمن، بلسانٍ واحد، عن حتميّة أنْ يكون ميدان المعركة المقبلة داخل الأرض الفلسطينية المحتلّة، وحين يُعبّر قادة العدو عن قلقهم الجدّي على مصير الكيان في الحرب المقبلة مع محور المقاومة، وحين تواجه سوريا هذا العدوان المرير والطويل من دون أنْ تنكسر إرادة دمشق أو تلين، فهذا يعني أنّ فصل تشرين الأخير لم يُكتب بعد، وإنّما تُبرى الأقلام بالدم والنار، بانتظار اللحظة القريبة الحاسمة في تاريخنا جميعاً.

 

البحث
الأرشيف التاريخي