اليوم العالمي للمسنين
الكبار في السن هم بركة وليسوا عجزة
رُلى فرحات
صوتت الجمعيّة العامة للأمم المتحدة في تاريخ 14 ديسمبر/ كانون الأول عام 1990 ليكون يوم 1 أكتوبر بمثابة يوم عالمي للمسنين أو اليوم العالمي لكبار السن وهو أحد أعياد الأمم المتحدة ومناسبة سنوية عالمية للإحتفال بما أنجزه كبار السن وبما قدموه للمجتمع وكذلك لرفع نسبة الوعي المجتمعي بالمشاكل التي يواجهونها كسوء المعاملة التي يتعرضون لها ومسألة تداعيات تقدمهم في السن.
يؤدّون دور الحكيم بمحبة واتزان
كبار السن هم جزء هام من النسيج المجتمعي ومشاركون فاعلون فيه وفي أسرهم الصّغيرة، حيث ينشرون الحكمة والوعظ ويحرصون على تطبيق التقاليد والمحافظة على القيم التي تُبقي الأجيال على بر الأمان. يؤدّون دور الحكيم بمحبة واتزان، ويزرعون الفرح في قلوب من حولهم وخاصة الصّغار بإبتسامات الرضا، فيكونون قدوة ومثلا يُحتذى به في حياة الشباب المعاصر والذي يعيش معهم.
والشيخوخة حقيقة بيولوجيّة لها طريقتها المعينة في الحدوث خارج نطاق التحكم البشري وتكون على مستوى التغيّرات الجسديّة كنتيجة لتراكم كميات كبيرة من نواتج تفاعلات الجزيئات والخلايا بمرور الوقت؛ مما يؤدي إلى تضاؤل تدريجي في القدرات الجسديّة والنفسيّة، وزيادة إحتماليّة الإصابة بالأمراض.
وهناك عدة عوامل تؤثر على صحّة كبار السن، منها ما هو فردي ومنها ما هو مجتمعي، والمهم في الموضوع الشّيخوخة الصّحيّة أي أن يبقى كبير السن مستمراً في الإستقلاليّة لأداء احتياجاته اليوميّة. وعليه تتنوّع المشاكل الّتي تُصيب المسنين بين الجسدية والاجتماعية والنفسية.
ولكبير السن الحق في الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء والمأوى والملبس والرعاية الصحيّة والطبيّة والنفسيّة. وكذلك له الحق في المشاركات الإجتماعية والحضور بفاعلية وتلبية احتياجاته العاطفيّة والماديّة هي من أهم الحقوق لأنّ العمل على تقليل إحساسه بالعجز والعزلة يجعل منه إنساناً محبّاً للحياة ويشعر بلذة المشاركة والعمل على مساعدة الآخرين حيث يرتفع عنده منسوب تقدير الذّات والشعور بالقيمة مما ينعكس إيجاباً على صحتّه النّفسيّة والجسديّة.
وعليه، يجب تنظيم برنامج يومي ترفيهي لهم يتضمن أنشطة في الطبيعة والاستمتاع بمناظرها الخلابة بل والإندماج أيضاً في ربوعها، ومساعدتهم في أداء تلك الأنشطة والأخذ بيدهم إن احتاج الأمر بدون أن يشعروا بأنّهم ضعفاء ولا يقوون على أدائها لوحدهم. تبادل أطراف الحديث معهم بمختلف المواضيع التي يحبونها ويتطلعون لمعرفتها من سياسيّة وإقتصاديّة وإجتماعيّة وغيرها. وكذلك استشارتهم ليشعروا أنّهم مازالوا ذي قيمة ورأيهم يُعمل به.
مفاهيم وصّور خاطئة عن كبار السن
-إنخفاض مستوى صحتهم الجسديّة يعني أنه تنخفض قدراتهم الذهنيّة والفكريّة:
في الحقيقة توجد بعض الأمراض والإصابات التي تُصيب جسد الإنسان وقد تؤثر في قواه العقليّة وفي ذاكرته أيضاً مثل: الجلطات الدماغيّة وإصابات الرأس، والإدمان على المخدرات والكحول وبعض العقاقير الّتي تُسبب تشوّهات فكريّة. ولكن التقدم في العمر ليس مقياساً ليكون سبباً مباشراً من أسباب تدهور العقل.
نعم من الممكن أن يستغرق كبار السّن وقتاً أطول لتعلم استخدام أجهزة معيّنة أو مهارة معيّة خاصة في مواكبة التّطور التكنولوجي، ولكنهم يتعلمون بل ومن الممكن أن يُتقنوا ذلك أكثر من أولئك الذين يصغرونهم في العمر لأنه ببساطة فئة مسؤولة وتحترم الآخر كثيرون وتحب النّجاح في أي مهمة توكل إليها. بالإضافة إلى كون كبير السّن أكثر حكمة واتّزان في التعامل بالمواقف الإجتماعيّة خاصّة أنّهم يتمتعمون بقدر عال من الضّبط الإنفعالي والهدوء. فمن الشائع إعتقاد النّاس أن قدرة الإنسان على التعلم تضعُف مع تقدُّمه في السن، ولكن هذا ليس صحيحا بالضرورة، على الأقل فيما يخص المخ البشري وقدرته على إكتساب المعرفة في كل المراحل العمريّة ومهما تقدّم في العمر.
- جميعهم متشابهون:
يتميز كبار السّن بنكهات خاصّة وبفروقات قد تكون مذهلة في بعض الأحيان. فهناك من يبلغ الثمانين وأكثر وهم يتمتعون بقدرات لا نُبالغ إذا قلنا خارقة على المستوى الجسدي والعقلي والنّفسي والرّوحي خاصّة إذا ما قارنّاها مع فئة الشباب.
-لا يمكنهم تعلم مهارات جديدة ولا يستيطعون التّطور:
عادة ما يرفض المسؤولون توظيف من هم أكثر من خمسين عاماً بل أحيانا يكونون مُجحفين فيرفضون من هم أكبر من أربعين سنة، لأنّهم يعتقدون بأنّ كفاءاتهم تقل ولن يعد بإستطاعتهم تطوير مهاراتهم لتتناسب مع متطلبات العمل. بالطّبع هذه الحُجَّة غير منطقيّة، خاصة أنّ هناك دراسات كثيرة وعديدة تُشير بل وتُؤكد استطاعة تعلمهم مهارات جديدة مثل الأشغال اليديويّة والحرفيّة والتصوير وأنشطة حل الألغاز، وهذا ما يُؤدي إلى تحسّن قدرات الذاكرة لديهم خاصة حين يقومون بأمور جديدة وغير تقليديّة فتُشكل تحديا عقليا بالنسبة إليهم ممّا يُؤتي بثمار جيّدة خاصّة أن المخ يستمر في النمو كلما طولب بأداء مهام جديدة، وأُستثير بأنشطة تتحدى قدراته، كما أنه يتضاءل وتقل قدراته إذا حرم من الإستثارة والتحدي.
- يميلون إلى العزلة والوحدة وتجنب الأنشطة الإجتماعيّة:
المسنّون يفهمون أنفسهم بشكل جيد فهم يعرفون من هم الأشخاص المناسبون لمرافقتهم في مرحلتهم العمريّة الممّيّزة بكل تفاصيلها فهم لا يهتمون بكثرة العلاقات الإجتماعيّة الّتي لا تعود عليهم بفائدة، ويُفضّلون إختيار القليل من الصّداقات التي تجعلهم أفضل وتُضيف إلى سجلّاتهم الحياتيّة لذة ومعرفة وخبرة، فكلما تقدمنا في السّن زاد لدينا الذّكاء الإجتماعي، مما يجعلنا نصل إلى فهم أفضل للعلاقات وللإختيارات الحياتيّة.
-إصابتهم بالزهايمر مسألة حتمية:
لا يجوز أن نعتبر أنّ مرض الزهايمر هو جزء طبيعيّ من مرحلة الشيخوخة، إذا كان هناك شخصٌ مسنّ مصاب بالنسيان، إذ من الممكن أن يكون مرضه له صلة بنمطيّة حياته الّتي يعيشها ومتعلّق بنظام التّغذية الّذي يتبعه، أو نتيجة مشاكل طبيّة وأدويّة يتعاطاها، أو ناجمٌ عن ضغوطات حياتيّة نفسيّة وإجتماعيّة وحتى أحداث صدميّة. فليس بالضرورة أبداً أنّ كل من ينسى يُفترض تشخيص إصابته بالزهايمر.
ولا بُدّ في نهاية حديثنا عن الشّيخوخة أن نتطرأ إلى الشّيخوخة النّفسيّة والّتي تُعرّف في الطب النفسي للمسنين على أنّها حالة تُسمّى ضمور الدّماغ، وفقدان الحجم فيه، وتُؤثّر في إنتاج الموصلات الكيميائية في الدماغ مع تقدم العمر، وهي تُلاحظ مع الشيخوخة الطبيعية.
مشاعر تُؤثر في صحة المسّن النّفسيّة وتُصيبه بالإكتئاب
من ناحية ثانيّة وحين يتغيّر نمط حياة الشّخص بعد تقدمه بالعمر فيُعاني من بعض التغيّرات الوظيفيّة، ويختبر فقدان الأحبة وبعض مشاعر الخذلان والوحدة، والخوف، والقلق وعلى رأسها قلق الموت، وهذه أمور ومشاعر كلّها تُؤثر في صحة المسّن النّفسيّة وتُصيبه بالإكتئاب، الهوس، حتى وبالوساوس وبالذهانات، فتنعكس تداعياتها على صحتّه الجسديّة فيُعاني ما يُعانيه من آلام وأوجاع لا تنفع معها العقاقير والأدويّة لأنّها مصدرها داخلي وآلامها في الرّوح وليس في أعضاء الجسد...
ولا ننسى ما يتعرض له المُسّن من سوء معاملة سواء في الأماكن المخصّصة لإيوائهم وللإهتمام بهم أو أحياناً داخل أسرهم، حيث نرى الكثير من الأبناء يتخلّون عن آبائهم وإن لم يضعوهم في دار المسنين (إني لأرفض تسميته "مأوى العجزة" لما في هذه التّسميّة من تنمر وتجريح في كراماتهم وحط من أقدارهم، الكبار في السن هم بركة وليسوا عجزة!!!) فهم ينشغلون بأمورهم الشخصيّة وينغمسون في أعمالهم وفي عائلاتهم ويعتنون بأطفالهم وأزواجهم ويكدّون لتأمين حاجياتهم ويسهرون ليرو إبتساماتهم. وهم بهذا ينسون منْ سهر تلك الليالي وضحى وكدّ وعمل حتى أصبحوا على ما هم عليه اليوم، يشغلون مراكزاً ويُحقّقون إنجازاتٍ كان أساسها الأول الأب والأم اللذان مهّدا الطّريق لولدهما كي يسير في نهج العلم والطموح. يظنون أن الآباء يطلبون الكثير، وهم للحقيقة يكفيهم السؤال عن حالهم والجلوس معهم لتمضية بعض الوقت بتبادل أطراف الحديث. فقط يُريدون أن يروا في عيون أبنائهم أنّهم مازالوا حاضرين وهم على قيد الحياة لا الموت.
وهذه مشكلة موجودة في كل دول العالم المتقدّمة منها والنّامية، كذلك تبرز في مختلف العائلات الفقيرة أو الغنيّة. وهي مشكلة حقيقيّة لفتت النّظر إليها الأمم المتحدة في التّحضيرات للإحتفال بيوم المسن العالمي في السنة الماضيّة (2022) حيث عنونت الوثيقة بـ "التّصدي لإساءة معاملة المسنين" وضمّنتها خمس أولويات لعقد الأمم المتحدة للشيخوخة الصحيّة 2021-2030. وحدّدت تلك الوثيقة الأولويات الرئيسية لمنع إساءة معاملة المسنّين والتّصدّي لها بما يُسهم في تحسين تنعمهم بالصّحة والرفاه وصون كرامتهم. وفي إحتفال هذا العام (2023) سوف يتم عرض المستجدات في ما يتصل بتنفيذ تلك الأولويات، ومنها معالجة العنف القائم على النوع الإجتماعي في مرحلة الشيخوخة في إطار السياسات العامّة والقوانين والإستجابات المرتكزة على الأدلة. كبارنا هم عزّنا وكرامتنا وعنفواننا، هم وطننا الحاضر وعبق التاّريخ المنتقل إلينا من خلال إرث الزمن. ولا ننسى أنّنا شبابُ اليوم وأطفال الماضي والشّيخوخة تنتظرنا في الغد القريب...!!!