أبعاد وتداعيات خطاب رئيسي في الأمم المتحدة
محمد علي صنوبري
كاتب ومحلل سياسي
كما يحدث في أغلب القمم الدبلوماسية، طغى الخطاب السياسي الممل والمتكرر على أجواء أعمال الدورة الـ78 للجمعية العامة في الأمم المتحدة في نيويورك، ولكن، وخروجاً عن هذا النسق المنمّق في الخطابات السياسية المنفصلة عن الواقع التي تدعو إلى حل الأزمات الوجودية التي تواجه عالمنا المعاصر من دون تقديم أية مبادرات أو أطروحات تكون أساساً للحلول، ظهر خطاب الرئيس الجمهورية آية الله السيد إبراهيم رئيسي متفرداً من ناحية طرح المعضلات الرئيسية التي تواجه هذا العالم من جهة، وطرح مبادرات وحلول واقعية لهذه الأزمات من جهة أخرى.
لعل أكثر ما ميّز خطاب رئيسي في الأمم المتحدة هو أنه تحدث عن القيم الإنسانية مقابل القيم الغربية المزعومة، فتحدث على سبيل المثال لا الحصر عن الأسرة ودورها المحوري في التربية والنهوض بالمجتمعات. ومن القيم الإنسانية والاجتماعية، ذهب رئيسي إلى رفع نسخة من القرآن الكريم أمام أعضاء الجمعية العامة في الأمم المتحدة، إذ إن المساعي الغربية أصبحت واضحة للعيان من حيث الهجوم الأوروبي الأميركي المشترك على كل ما هو مقدس لأكثر من ملياري مسلم.
لم يؤكّد رئيسي ضرورة احترام المقدسات الإسلامية فحسب، بل أكد أيضاً ضرورة احترام جميع الأديان والمعتقدات الدينية، وهذا ما يتماشى مع السياسة التي تتبناها طهران داخلياً وخارجياً من خلال دعواتها المتكررة إلى حوار الأديان والمذاهب والانضواء تحت مظلة الإنسانية.
سياسياً، تطرقت العديد من وسائل الإعلام الغربية إلى خطاب رئيسي، فقد وصفت صحيفة "الغارديان" البريطانية خطابه "بخطاب المنتصرين"، وقالت إنَّ الرئيس الإيراني تحدث عن فشل جهود المخابرات الأميركية ضد إيران، مشيرة إلى أن عصر الغرب انتهى.
قد تعود جذور هذا التوصيف الدقيق إلى الانتصار الكبير الذي حققته إيران، وإلى وصبرها الاستراتيجي في الداخل بعد أحداث الشغب التي دعمتها المخابرات الغربية والأميركية؛ فقد استثمرت المخابرات حينها وفاة شابة إيرانية في محاولات لتأجيج الوضع الأمني في إيران، ووظفت جميع وسائلها من صحف عالمية وقوى انفصالية فاعلة على الأرض، سواء في الداخل الإيراني أو في الخارج. وعلى الرغم من الحملة الممنهجة التي شنّتها وسائل إعلام غربية وشخصيات سياسية ودبلوماسية أوروبية وأميركية، فإنَّ الشعب الإيراني قال كلمته: "لا للشغب، ولا لأعمال العنف والتخريب".
نظام عالمي جديد
بالعودة إلى المفهوم الإيراني للنظام العالمي الجديد الذي يبدو أنه في مرحلة التشكل، فقد عكس رئيسي نظرة إيران وقائدها الأعلى إلى هذا النظام الذي ستكون إيران فاعلاً ولاعباً رئيسياً فيه. كما أظهر خطاب رئيسي في الأمم المتحدة بأن هناك عدداً قليلاً من الدول التي لا تراوغ بالنسبة إلى الثوابت والمبادئ، كالإسلام والقرآن والقضية الفلسطينية وإنهاء الحروب في اليمن وسوريا والعراق أو أفغانستان وأوكرانيا.
ولعل من غرائب وعجائب كواليس قمة الأمم المتحدة هذا العام هي محاولة مندوب الاحتلال الإسرائيلي التشويش على خطاب الرئيس الإيراني، لكن جميع محاولاته فشلت، لأن عناصر الأمن قاموا باحتجازه وطرده من القاعة.
اليوم، يريد المجتمع الدولي أن يستمع لرواية حقيقية عما يعانيه الفلسطينيون، ربما لأن الحروب الإسرائيلية والانتهاكات المستمرة ضد الشعب الفلسطيني كشفت زيف الرواية الإسرائيلية. وبناء عليه، لا بد من سماع رواية حقيقية عن المعاناة الفلسطينية.
تدرك إيران جيداً أهمية المنبر الدبلوماسي في الأمم المتحدة. لذلك، استعانت به لطرح قضايا الأمة الإسلامية التي يشن الغرب حرباً شعواء على مقدساتها وقضاياها العادلة. لقد شهد العالم هذا العام خطاباً مختلفاً من حيث المحتوى والمضمون؛ خطاباً يوضح بشكل جلي أن الشعب الإيراني، وحكومته كذلك، انتصروا في الحرب الاستخباراتية التي شُنت ضد الأراضي الإيرانية. وشكل هذا الخطاب مقدمة لمعالم العالم متعدد الأقطاب الذي بدأ بالظهور؛ العالم الخالي من الهيمنة الأميركية الغربية، والذي يقوم على أساس احترام الدول وسيادتها وشؤونها الداخلية؛ عالم لا بد من أن تستيقظ دوله من كابوس طويل تم خلاله إدخال منطقة الشرق الأوسط في دوامة لامتناهية من الحروب، وتم خلاله كذلك انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني والسوري واليمني والعراقي والأفغاني والإيراني وبقية شعوب المنطقة.