الباحثة في دراسات الأسرة والجنوسة للوفاق:
شريكة الأنبياء في صناعة الإنسان..سعي غربي ممنهج لتوهين دورها
عبير شمص
تحمل أزمة ربة البيت عدة أوجه، فهي من ناحية تتعلق تارةً بعمل المرأة داخل منزلها أو خارجه، ومن ناحيةٍ أخرى هل يقتصر دورها داخل المنزل على القيام بالأعمال المنزلية والرعائية من رعاية الأطفال صحياً وتربوياً، وتأمين متطلبات الراحة للرجل، أي إدارة المنزل وإدارة شؤون قاطنيه من جهة تلبية إحتياجاتهم المادية، فهل دورها يقتصر على هذا أم يتعداه إلى أدوار أكثر أهمية وحيوية يمكن لها أن تقوم بها، وهذا ما حصل واقعاً وتاريخياً وإن بنسب متفاوتة، من جهة تحقيق الأمن العاطفي والنفسي لأفراد العائلة، والأمن الروحي والعقدي والأخلاقي عبر حفظ الأخلاق والقيم وتشذيبها ونقلها للأجيال، فالسؤال الذي يطرح هنا هل دور المرأة يقتصر على تلبية الاحتياجات المادية أم يشمل الاحتياجات المعنوية والروحية والأخلاقية أيضاً. وضمن هذا السياق حاورت صحيفة الوفاق الباحثة في دراسات الأسرة والجنوسة الأستاذة ميسون رضا التي أشارت لوجود مشكلة عالمية تشمل المجتمعات كافةً وممتدة عبر التاريخ تتعلق بالنظرة إلى الدور الجمالي والعاطفي للمرأة مقارنةً بالأدوار الأخرى، فنجد المجتمع يُثمن موضوع إنفاق المرأة مقابل أعمالها العاطفية والتربوية، والجدير ذكره أن التربية تُعتبر أهم أدوار الأنبياء (ع) الذين اصطفاهم الله وأوكل إليهم مهمة صناعة الإنسان، تشارك المرأة الأنبياء (ع) في هذا العمل وذلك عبر بناء شخصية إنسان متكاملة بجوانبها الروحية والنفسية.
ربة المنزل عاملة أم عاطلة عن العمل
للأسف فإنّ هذا التصنيف نطلقه في مجتمعنا من حيث ندري ومن حيث لا ندري، والسبب الرئيسي كما تُشير الأستاذة رضا لهذا الأمر هو نظرتنا إلى مفهوم العمل نفسه، وهنا لا بد من التمييز بين مفهوم العمل في النشاط الاقتصادي وفق الرؤية الغربية، ومفهوم العمل وفق الرؤية الإسلامية؛ بالنسبة لمفهوم العمل وفق الرؤية الغربية وخاصةً بعد الثورة الصناعية، فله ثلاث خصائص؛ هي "القيام بالنشاطات في زمن محدد ومنظم، والحصول على أجر لقاء ساعات العمل، ووجود مسافة بين مكان العمل ومكان السكن، والذي يُعبر عنه أحياناً بوجود فاصلة بين الاستهلاك والانتاج". هذا المفهوم للعمل قائم على نظرة الغرب الأخلاقية المهيمنة على حياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، القائمة على مذهب المنفعة، فالعقلانية في الغرب والتي تغنى بها كثيراً هي كما يورد العديد من المنظرين ومنهم عالم الاجتماع الألماني "فرديناند تونيز"، هي عبر وعي الفرد في أن أي عمل يقوم به هو لتحقيق المنفعة له -طبعاً المنفعة المادية المحسوسة- والتي تتمظهر في الأعمال الاقتصادية عبر استيفاء الأجر المادي على كل نشاط يقوم به. وضمن هذا التصنيف اذن لا يمكننا اعتبار الأعمال والأنشطة التي نقوم بها دون أجر مادي تدخل ضمن نطاق العمل الاقتصادي والذي يحرك عجلة الاقتصاد.
وتُضيف الأستاذة رضا :" بينما في النظرة الإسلامية -وكما يقول السيد محمد باقر الصدر- أن القيمة أساس العمل؛ أي قيمة؟ يقول : "إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة". إذن العمل له قيمة مؤثرة في رفع مستوى الحياة (المادية والمعنوية) عبر كونه مرتبط بصلاح المفاسد والتي تمتد من البعد الدنيوي إلى البعد السماوي الغيبي، فهو عبادة ومن أفضل العبادات.
وبالتالي وفق الأستاذة رضا فإنّ ربة المنزل ليست عاطلة عن العمل فحسب بل عملها مؤثر بشكل عميق في تقدم حياة المجتمع الإسلامي وازدهاره على كل المستويات، وخاصةً لكونه غير مدفوع الأجر، وبالتالي هو مرتبط بالبُعد الغيبي بشكل أكبر من غيره من الأعمال الاقتصادية؛" وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزقُكُم وَمَا تُوعَدُونَ"، إضافةً لكونه يُقدم ضمن إطار الأسرة والتي هي محور المجتمع الإسلامي والخلية الأساسية الأولى له.
عمل ربة المنزل بين المفهوم التربوي الرعائي والمفهوم الاقتصادي
أعطى الإسلام المرأة الحرية الكاملة في الحركة الإقتصادية من أنشطة وأعمال وتملُك، وذلك كونها تملك الأهلية الكاملة والرشد الاقتصاديين كما الرجل بل أوجب عليهما ذلك في العديد من المفاصل؛ " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ " (النساء 34).
فالرشد الاقتصادي للأمة الإسلامية، تشرح الأستاذة رضا بأنه "اتخاذ جميع الإجراءات والتدابير التي من شأنها تنظيم أركان الاقتصاد وتوجيهها لتعظيم المنافع الاقتصادية المعتبرة شرعاً عبر الموارد المتوفرة، ومن ثم تحقيق السعادة الدنيوية للفرد والمجتمع بالالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية". واذا بحثنا بدقة في المجالات التي تساهم في تنظيم الحياة الاقتصادية للأمة، وتحقيق المنافع، لوجدنا أنّ العمل المنزلي هو من أكثر المجالات التي تُحقق هذا الأمر، وبالأخص ما تقوم به ربة المنزل، وذلك ليس لأنه لا يقتصر على الشؤون المادية فحسب، بل يشمل الأدوار الرعائية من الناحية العاطفية والنفسية، والأهم التربوية والثقافية، فعلى سبيل المثال إنّ فعل الإطعام (الإرضاع وإعداد الطعام البيتي والذي يحافظ في غالب الأحيان على الخصائص التراثية) الذي هو فعل له أبعاد ثقافية واضحة إضافة إلى أبعاده العاطفية والنفسية التراحمية والصحية، وفي بعض الأحيان له تأثير في العلاقات القرابية والاجتماعية (التحريم الحاصل عبر الإرضاع)، وهذه الدورة الاجتماعية والثقافية والصحية لها تأثير واضح على المجال الاقتصادي.
والمرأة إضافة إلى كونها مباشرة للأعمال المنزلية، تضيف بأنها تُساهم في دفع التقدم الاقتصادي عبر دعم إنتاجية العناصر البشرية المتمثلة بأبنائها وزوجها. فالإسلام يعتبر العنصر البشري العامل الأهم في التطور التنموي، لذلك يعتني ببناء كيان المسلم النفسي والجسدي اعتناءً كبيراً، عبر تربيته واستمرار إحاطته بظروف جسدية ونفسية سليمة تزيد من إنتاجيته، ومن هنا كان البيت الإسلامي من أهم المؤسسات الاقتصادية، لأنه ينتج العنصر البشري ويعمل على زيادة إنتاجيته، والمرأة تقوم بهذا الدور أي تأمين كامل الظروف الملائمة والسليمة لزوجها وعائلتها باستمرار.
تبخيس وانتقاص مجتمعي لجهد ربة المنزل
إسلامياً، فإنّ الدور الأساسي والحيوي الذي تقوم به المرأة يكمن في دورها في الأسرة، والحديث الشريف يبين هذه المسألة؛ فعن رسول الله (ص) "جهاد المرأة حسن التبعل"، "أيما امرأة دفعت من بيت زوجها شيئاً من موضعه إلى موضوع تريد به صلاحاً نظر الله إليها، ومن نظر الله إليه لم يعذبه"، وكذلك قال(ع): "إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمته، فإذا أرضعت كان لها بكل مصة كعتق محرر من ولد اسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملكٌ كريم على جنبها وقال: استأنفي العمل فقد غُفر لك"، هذه الرؤية المتعالية لدور المرأة في الأسرة وفي المنزل، لا تتفق مع النظرة القاصرة التي انتشرت في مجتمعاتنا للأسف، والتي تأثر بها الخطاب الثقافي المتوجه للناس، والتي تحاول أن توجه النساء إلى التفرغ لأعمال المنزل، والاستغراق فيها بالكامل، بمعزل عن أي دور اجتماعي أو سياسي، وفي ذلك تجاوز للآية القرآنية الكريمة؛ "المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، فالمرأة -كما الرجل- تتحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي كل المجالات؛ السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية... فرسول الله (ص) وفي وصفه للمرأة العاملة في منزلها يشير إلى نقطة هامة وهي "تريد به صلاحاً" هذه الهدفية أو نية الصلاح المرتبطة بما عند الله "ربي ابن لي عندك بيتاً في الجنة" تشمل الصلاح الاجتماعي وصلاح الأمة، فالصلاح لا يقتصر على استفادة فرد معين هو الزوج أو مجموعة محدودة وهي الأبناء، بل إنه يشمل إرادة الصلاح لجميع الناس من حيث أن عملها هذا يؤثر في المجتمع من حيث كون الأسرة الخلية الأولى للمجتمع، والمرأة عندما تربي أبناءها تربية صالحة فإن أبناءها -بدورهم- يساهمون في صلاح المجتمع، وإذا كانت همة المرأة عالية فإنها تنشئ أبناءاً قادةً يغيرون وجه التاريخ، وبذلك تكون بحق عاملاً من عُمالالله.
اعتراف غربي بأهمية عمل المرأة في المنزل
تستشهد الأستاذة رضا في حديثها بدراسة ما قامت به إحدى النسويات في ما بعد منتصف القرن العشرين في الولايات المتحدة، وهي "بيتي فريدان" وضمنت هذه الدراسة في كتابها "اللغز الأنثوي"، طبعاً معطيات الدراسة كانت هامة جداً ويمكن أن نستفيد منها، لكن للأسف هي قامت بتحليل المعطيات بطريقة خاطئة وذهبت بها إلى نتائج مغلوطة وكارثية.
كانت "بيتي فريدن" إحدى ربات المنازل اللواتي تعلمن في الجامعات آنذاك لكنهن تركن الدراسة أو المجال المهني وتفرغن للمنزل والأعمال المنزلية، في وقت كانت الدعاية الإعلامية للدولة آنذاك تشجع النساء للتفرغ للمنزل -وذلك بعد الحرب العالمية الثانية-، لكن إلى جانب ذلك كانت تشجعهن على ترك الدراسة والأدوار الاجتماعية، وكذلك المهن السيادية كأستاذة جامعية أو طبيبة أو مسؤولة بحثية وغير ذلك من الأعمال... في المقابل كانت العديد من النساء الفقيرات يعملن في المصانع بأجورٍ زهيدة وبظروف صعبة.
كانت "بيتي" تشعر بأنها غير مرتاحة البتة في هذا الوضع، وقد حاولت في البداية استنطاق النساء اللواتي يعشن نفس الظروف، وتحول استنطاقهن إلى إجراء مقابلات اجتماعية معهن، وتعميق البحث، فتوصلت إلى أنّ الغالبية العظمى من النساء لم يكن يشعرن بالاكتفاء والرضى، أمّا اللواتي كن يشعرن بالرضى كنّ يعملن بدوام جزئي أو يقمن بأعمال اجتماعية تطوعية. هذه المشكلة أو الأزمة التي كانت معظم النساء ربات البيوت تعاني منها سمتها فريدان "المشكلة التي لا إسم لها" فالمرأة تعيش الاغتراب عن الذات في مجتمع يُعلي من قيم الرجولة والأعمال الذكورية. واستنتجت "فريدان" أن المرأة يجب أن تخرج من منزلها وأن دورها الأساسي هو خارج المنزل، وكانت من المؤسسين لأهم منظمة في تاريخ الحركة النسوية، لكنها بعد عقود من الخروج من المنزل، ندمت وكتبت كتاباً يُعلي من دور المرأة داخل المنزل، وأن ما عاشته هو كذبة كبيرة.
تلفت الأستاذة رضا إلى ضرورة الاستفادة من هذه المسألة في النظر إلى مجتمعاتنا، وفي توجيه نسائنا ورجالنا، وفق ما يطرحه الإسلام، فالإسلام يُعلي من دور المرأة داخل المنزل بل هو أحياناً أعظم من دور الرجل، لكنه في المقابل لا يقبل للمرأة أن تستغرق بالدور المنزلي كهدف نهائي، بل أن تربطه بطاعة وخدمة الله (سبحانه وتعالى)، فدورها داخل المنزل لا يتعارض مع جهادها في سبيل إعلاء الدين وكلمة الله وعزة المسلمين، ولنا في أمهات الشهداء في إيران ولبنان وفلسطين والعراق وباقي بلاد المسلمين الأُسوة الحسنة والنهج القويم. إضافة إلى حث الإسلام المرأة على طلب العلم وفي أعلى مستوياته فـ "طلب العلم واجب على كل مسلم"، ودورها في التربية يتطلب أن ترتاد التعليم العالي، وأن تتعمق في المعرفة والاختصاص العلمي.
ومن الضروري أن يلتفت الخطاب الديني -بما يتعلق بدور المرأة- لهذه المنظومة المتكاملة للأحكام الشرعية والقيم الإلهية، وكذلك هذا التناغم الجميل بين الدين وبين الواقع الاجتماعي والفطرة الإنسانية.
تشويه إعلامي مشبوه لعمل وموقعية ربة المنزل في أسرتها
في مجال الحرب الحضارية اليوم، والتي تواجهها مجتماعتنا، والتي تستهدف الدين والقيم الإلهية والفطرية، فإنّ الحركة النسوية (الفيمينسم) تعتبر رأس الحربة في هذه الحرب. فوفق الأستاذة رضا تحاول هذه الحركة وحلفاؤها من الداعين إلى التحرر الجنسي- في هذه الحرب القضاء على الأسرة، وبالأخص على الدور الأنثوي الأمومي للمرأة؛ ف"سيمون دي بوفوار"، والتي يُطلق عليها النسويون رائدة الحركة النسوية تعتبر في كتابها المعروف "الجنس الآخر" والذي كان نقطة مفصلية في تاريخ الحركة، تعتبر أن الزواج استعباد للمرأة وأن "الأمومة هي عبودية المرأة للنوع -البشري-"، وبالتالي يجب أن نحررها من هذا الدور وهذه العبودية، لذا تدعو إلى دفع النساء لترك منازلهن وأسرهن، ولو اضطررنا إلى استخدام القوة!!!
طبعاً هذه الدعوة تنسجم -وكما يراها العديد من الباحثين- مع أهداف الدول الإستعمارية والتي تسعى إلى التحكم بالشعوب في سبيل تحقيق الفئة الحاكمة، بدءاً من شعوبهم نفسها، فالأسرة والمرأة هي السد المنيع في مقابل تهديم الحضارة أي حضارة، فالأسرة هي حامية القيم وناقلة الثقافة والدين، والمرأة بدورها المحوري والحيوي في الأسرة وبعفتها وحجابها هي صمام الأمان لأي مجتمع وبالأخص المجتمع الإسلامي، لذلك كان لا بد من تفكيك هذا الدور العظيم الذي تقوم به المرأة داخل الأسرة. ومن هنا كان لا بد من تخصيص ميزانيات هائلة لهذه الدول لاستهداف المرأة والأسرة، ودُوّلت مسألة المرأة بحيث أصدرت العديد من الاتفاقيات والوثائق التي تدعو الدول المستقلة للرضوخ لأجندات الدول الإستكبارية.
وتُشير الأستاذة رضا إلى أن أهم المؤسسات التي جُنّدت لهذا الشأن هي مؤسسات الإعلام العالمية، والتي -للأسف- تتبعها العديد من وسائل الإعلام المحلية في البلدان الإسلامية، فيتم التركيز على النماذج السيئة من النساء، كذلك على توهين الدور الأنثوي للمرأة ومنها الأمومة وإدارة الأسرة والعمل المنزلي، وربط العلم وتفوق المرأة بالخروج إلى ساحات العمل، حيث تحقق ذاتها واستقلالها المادي، وكأن العلم والنجاح يتعارض مع الدور الأسري والأمومة. وكان لعمل الوسائل الإعلامية العديد من النتائج الوخيمة على المرأة في الدول الغربية نفسها، والتي تعاني فيها اليوم المرأة من الاغتراب عن ذاتها ومن الفقر والإذلال بعيدا عن أسرتها الحامي الأول لها. وتختتم الأستاذة رضا بالقول أنه يجب أن تتضافر الجهود لمواجهة هذه الهجمة وإعادة الأمور إلى بوصلتها الأساسية وتحكيم الدين الإلهي الذي يحاكي فطرة الإنسان "فطرة الله التي فطر الناس عليها"، ويحقق مصلحته في الدنيا والآخرة.