في ذكراه الثامنة ..
السفير الشهيد غضنفر ركن آبادي.. جندي المقاومة المجاهد
الوفاق/ في مثل هذه الأيام منذ ثماني سنوات، أدى تدافع الحجاج في مدينة منى، بسبب إهمال السلطات السعودية وتقصيرها، إلى استشهاد أكثر من 2121 منهم، ومن بينهم سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق في لبنان الشهيد غضنفر ركن آبادي، الذي كان من أبرز من تولى مهام تمثيل بلاده في بلد المقاومة، والذي استطاع أن يترك بصمةً مميزةً لدى الكثير من اللبنانيين.
كان معروفاً بصفات التواضع والتفاني في الخدمة الى أقصى الحدود، وكان ممن يمتلكون إلماماً كبيراً في القضايا الكبرى العالمية وعلى صعيد الأمة، وكان يحرص على عدم إهمال التفاصيل الصغيرة في عمله. كان من المتعلقين بشدة بفلسطين وبقضية تحريرها، كما كان من الناشطين في مجال التقارب والحوار الإسلامي المسيحي، والذي استطاع أيضاً إعطاء الزخم للعلاقات الإسلامية الوحدوية.
وكذلك ارتبط بعلاقات وثيقة وقوية جداً مع المقاومة الإسلامية في لبنان - حزب الله، كما ارتبط بعلاقات وثيقة وقوية بالشعب اللبناني من كافة أطيافه، حتى وصفه البعض من جمهور المقاومة بسفير لبنان الى إيران.
وقد نجا في العام 2013، من العملية الإرهابية التي نفذتها جماعة عبد الله عزام التابعة لتنظيم القاعدة، والتي استهدفت تفجير سفارة الجمهورية الإسلامية في بيروت، وارتقى على إثرها مسؤول أمن السفارة الشهيد رضوان فارس. يومها صرح السفير غضنفر ركن آبادي لوسائل الإعلام عن حزنه وتألمه لعدم استشهاده في هذا الهجوم.
لكن وفي 24 أيلول / سبتمبر من العام 2015، وفي موسم الحج من ذلك العام، حصلت مجزرة وفاة الحجاج في منى، وأدرج اسمه في البداية ضمن المفقودين، ثم روّجت السلطات السعودية لإشاعات دخوله باسم مستعار وبجواز سفر مزور، والتي سرعان ما تبين كذبها عندما تأكد لاحقاً دخوله باسمه لكن بجواز سفر عادي غير ديبلوماسي.
وهكذا بعد مضي 8 سنوات على استشهاده، تستذكر صحيفة الوفاق مع كريمته زهراء ركن أبادي عبر خواطرها خصاله ومواقفه، وتتعرّف إلى الأب والإنسان والدبلوماسي والمقاوم حتى الشهادة.
الشهيد الدبلوماسي والمقاوم
تقول زهراء غضنفر ركن آبادي عن ذكرياتها مع والدها :" أبي هو ذلك الشهيد الذي يصرخ من عمق قلبه ووجوده للثورة، إنه ذلك الجندي البسيط والمتعب، هو الصبي نفسه البالغ من العمر 12 عامًا الذي كان يذهب إلى المظاهرات المناهضة للشاه، هو الشاب نفسه البالغ من العمر 15 عامًا الذي يقضي أيامه صباحاً في مركز التعبئة وليلاً في المسجد، هو الطالب نفسه الذي يتابع امتحاناته ويشارك في الخط الأمامي من الجبهة، هو الدبلوماسي نفسه الذي قاتل لمدة 30 عامًا في الجبهات العسكرية والدبلوماسية، وأينما كانت هناك حرب، وهو كان من المنكسرين قلوبهم الذين كانوا داخل النظام وشاهدوا الخيانات والجرائم التي حدثت، وكم سفكت من دماء لتبقى وتستمر الثورة، لكنه في كل عام كان يشارك في مسيرة 22 بهمن (تاريخ انتصار الثورة الإسلامية) بحماسةٍ وطاقة خاصة ويردد الشعارات من كل قلبه. صرخ في هذه المسيرة بكل أحزانه في وجه أمريكا، الصرخات نفسها رددها في يوم عرفة في صحراء عرفات ثم ارتقى. هو لم يصرخ حينها فقط بل صرخ طوال العام، صرخ في وجه خونة الداخل الذين تحالفوا مع أمريكا ولم يتركوا الشعب يعيش بسلام. إنها كل الحكاية، إذا كان لدينا 364 يومًا من الصراخ والأنين والعظمة للأشخاص الذين يشبهوننا، يجب علينا أن نضع في يوم انتصار الثورة كل الأحزان الأخرى جانباً، ونصرخ بكل ما لدينا ضد أمريكا.
دفاعاً وصوناً لكرامة إيران
عُرف والدي بإخلاصه لعمله، واشتهر بالتواضع، ففي شهر رمضان المبارك كان عندما يقرأ القرآن بنفسه في جلسات التلاوة، وكذلك في جلسات الأدعية وخاصةً دعاء كميل في ليلة الجمعة، وحده الله يعلم مدى شوقه للمشاركة في هذه الجلسات الدينية، وقد أراد في يوم عرفة قراءة هذه الأدعية، ساعياً لإعلاء صوته والصراخ في وجه المستكبرين في تلك البقعة المباركة.
بطبيعة الحال، كان هذا التواضع يقتصر فقط على الوقت الذي كان فيه غضنفر ركن أبادي ممثلاً لنفسه، كان يجلس ممثل الأمة الإيرانية دائماً في أخر المجلس في الاجتماعات غير الرسمية في البرلمان ولا يهتم بموقعه، لكن عندما دعي في إحدى المرات لحضور مناسبة ما بصفته سفيرًا لإيران. ولمّا دخل قاعة الاحتفال ولم يجد المكان المناسب لمكانته كممثل للجمهورية الإسلامية الإيرانية، خرج غير عابئ بانزعاج المضيف ، معتبراً أن كرامة إيران يجب أن تُصان، فما كان من المضيف إلاّ أن هيأ له المكان المناسب معتذراّ عما بدر منه. متوعداً بعدم تكرار هذا الأمر مرة أخرى.
علاقة مميزة جمعته بأمين عام حزب الله
عمل والدي لمدة ثلاثين سنة في منطقة الشرق الأوسط، وكان يعرف كل تفاصيلها وخباياها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بعد سنتين من استشهاده، وفي لقاءٍ مع السيد حسن نصر الله (حفظه الله) ، أخبرني أنّه كان يعتمد على أبي كثيراً لأنّ رأيه كان صائباً دائماً، وكان لديه إشراف كبير وجيّد على المنطقة، وهو كان يساعدهم كثيراً في الموضوعات وفي الحرب خصوصاً.. حّدّثني السيد نصر الله كثيراً عن أبي".
وهنا سؤالي أن هذا الشخص الذي يعلم كل هذه الأمور، وما هي المخاطر التي واجهها؟ ألم يعلم أن تفجير سفارة بيروت والاغتيالات الأخرى كانت كلها بقيادة السعودية؟
لا أعلم لماذا ذهب، أعلم فقط أنه غادر وهو على علمٍ تام، بأنه كان يسعى لتحقيق هدف أكبر أو ربما كانت لديه مهمة ليس لنا علم بها. فقد أخبرنا مسؤولين من وزارة الخارجية حين اختفائه بأنه كان من المرجح وقوع أحداث ما في تلك السنة في الحج، وقد ذهب والدي لإدارة الأزمة في حال وقوعها، ولكنه ذهب ضحية هذه الأزمة. فهو في الأساس لم يقبل أن يتم تعريض حياة شخص ما للخطر لإنقاذ حياته، كانت لدينا دائمًا مشاكل في لبنان، وكان يبعد عنه فريقه الأمني أحياناً، ولكنهم كانوا يطلبون وساطتنا لنقنعه بوجودهم قربه، وكان يستسلم لطلبنا في النهاية، ولكن في النهاية حدث ما لم يكن في الحسبان، في يوم وقوع تفجير السفارة الإيرانية في لبنان ضحى الحاج "رضا" الشهيد رضوان فارس مسؤول الفريق الأمني للسفارة بنفسه واستشهد. في هذه اليوم كبر والدي كثيراً وأصبح عجوزاً، فنستطيع ملاحظة التحول الكبير الذي طرأ على لون شعره الذي تحول إلى اللون الأبيض من الصباح إلى المساء وهذا ما ظهر جلياً بين مقابلة الصباح والمقابلة الأخرى مساءً.
فروا نحو الحسين (ع)
في عام 2011 م توجه أبي للعمل في لبنان كسفير للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في ذلك العام أعلنت السعودية توقفها عن إعطاء التأشيرات للحجاج الإيرانيين المغتربين. وإعطاء التأشيرات للدبلوماسيين فقط، كان الجميع حزينين ومستائين. فقد كانت هذه هي الفرصة الوحيدة للذهاب خارج الطابور الطويل لمنظمة الحج في إيران، لكن خيب هذه القرار أمال الجميع ولم تصل الجهود والمداولات إلى أي نتيجة. كان أبي منزعجًا جدًا من الوضع الحالي وكانت أجواء الحزن تسيطر على الإيرانيين، فقال لهم فروا إلى الحسين (ع)، وأعلن للجميع أننا سنكون في مدينة كربلاء المقدسة في يوم عرفة هذه السنة، لقد نظم السفر في ثلاثة أيام، فلقد استطاع تأمين تأشيرة فورية للعراق لكل الزوار، ونسق المكوث في الفنادق طيلة الزيارة للجميع وأمن تذاكر السفر بسعرٍ منخفض كي يزور الزوار بأقل تكلفة ممكنة، وجعل مسؤول التشريفات في السفارة، والذي كان من التعبويين المخلصين، مسؤول الحملة، التي رافقها رجل دين للقيام بكل الشعائر الدينية أثناء المسير والزيارة، وهكذا انطلقت الحملة التي ضمت سبعين زائراً من المكسورة قلوبهم لمنعهم من زيارة بيت الله الحرام إلى أرض العراق.
تفاصيل رحيل الأب
في ليلة عيد الأضحى المبارك أخر مرة تحدثت مع والدي، اتصلت به لأعايده بحلول عيد الأضحى المبارك، وكالعادة سألني كيف كان خطاب يوم عرفة في المجتمع الإيراني، فأخبرته بأنه كان جيداً جداً وجميلاً، فأخبرني حينها برغبته بأن يحلق شعر رأسه، ولكني قلت له لماذا ستفعل هذا فهذه ليست حجّتك الأولى وليس واجب عليك أن تحلق رأسك، فقال لي حسناً لن أحلق لكنني أردت أن يتنفّس رأسي قليلاً"، ولم أعلم أن شعره سيكون واحداً من الأشياء التي سمحت لي بالتعرف على جثمانه بعد استشهاده في السعودية؟
للأسف لقد دفن السعوديون جثة والدي قبل التعرف عليها وبعد استخراجها وتحويلها لنا كانت ملامحها قد تغيرت بشكل كامل، ولم يبق شيء ظاهر فيها يدل على هويته سوي الشهيد، ولقد تم التاكد في ايران من صحة الفحوصات التي قامت بها السلطات السعودية وان الجثة تعود له ، لكن النقطة المهمة والمثيرة للشكوك هي عملية التشريح التي قام بها السعوديون واستخراجهم لأعضاء الشهيد.