في ذكراها الخامسة والأربعين..
مجزرة الجمعة الدامية.. بداية نهاية النظام البهلوي القمعي
الوفاق/ تُعتبر مجزرة 17 شهريور/ التاسع من أيلول من العام 1978 م، في ساحة (الشهداء) في العاصمة الإيرانية طهران، أحد المعالم البارزة في تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية. شكل القتل الوحشي للناس في ذلك اليوم الصورة الحقيقة لنظامٍ كان يحاول خلق صورة مسالمة ومحبة للحرية ومكافحة الفساد. وكانت الحادثة الدموية بمثابة نقطة النهاية لحياة النظام البهلوي القمعي، والذي لم يستمر أكثر من بضعة أشهر بعدها. نتناول في هذه المقالة مقدمات وخلفيات هذه الانتفاضة، ونسرد بعضاً مما جرى فيها من أحداث، ولماذا وكيف حدثت وفق وجهة نظر الإمام الخميني (قدس)، وتأملاته ونتائجه؟
لقد شهد مسار الصراع بين الحق والباطل عبر تاريخ البشرية صعودًا وهبوطًا لا حصر له. ولا شك أن قمع أي انتفاضة من قبل الظالمين هو مقدمة وخلفية للثورات اللاحقة. كانت الثورة الإيرانية، كغيرها من الثورات، عبارة عن سلسلة من الأحداث والانتفاضات غير المكتملة، والتي لم تمنع الثورة من التوقف فحسب، بل سرعت في تقدمها وتطورها، لقد نفذ الشعب الإيراني، الذي تعرض للعديد من الخيانات والقمع من قبل الأعداء، عدداً من الانتفاضات التي أدت مجتمعةً إلى إسقاط النظام البهلوي القمعي. وكان من أهم هذه الأحداث انتفاضة السادس من شهر حزيران /يونيو من العام 1963 م والتي، على الرغم من القمع الشديد والنفي النهائي للإمام الخميني (قدس) إلى الخارج، كشفت الوجه المنافق للشاه ومهدت لسقوط نظامه القمعي.
إن حركة تغريب البلد الواضحة للشاه، والتي رافقها سجن ونفي وقتل المقاتلين، وخاصةً رجال الدين من مؤيدي الإمام الخميني(قدس)، سببت غضباً واستياءً كبيراً للشعب كان لا بد أن ينفجر يوماً ما، ولكن لم يع النظام البهلوي خطورة ما وصلت إليه أمور البلاد، فقد واجه فجأة تحركات شعبية غير متوقعة، وكانت انتفاضة أهل قم في 9 كانون ثاني / يناير من العام 1978م، والتي جاءت بعد نشر مقال ضد الإمام(قدس) وإهانته في صحيفة الإعلام، بمثابة جرس إنذار خطير لنظام الشاه الفاسد الذي لم يفهم طبيعة وأهمية هذه الأحداث، ولو كان لدى الشاه فهم صحيح للوضع، لكان مصيره أفضل، ولكنه وفق أقاربه، كان يعاني من الكبرياء والغطرسة، ولا يعرف سوى لغة القمع.
أسباب انتفاضة 17 شهريور
حدثت اضطرابات عديدة في إيران عام 1978م إلى درجة أثارت غضب الشاه وقلقه. حرم شهداء تبريز الأربعون في يزد وجهرم وعدة مدن أخرى الشاه وحاشيته من النوم.. رأى الشاه أسس حكومته تهتز، فشرع من أجل تهدئة الناس، بالإضافة إلى القمع، في نفي رجال الدين، الأمر الذي لم يأت بأي نتائج سارة.
كان صيف عام 1978م بمثابة فترة ملتهبة وديناميكية للشعب الثوري في إيران، إذ كان هو العام الأخير للنظام البهلوي، ووصلت الاحتجاجات ضد هذا النظام إلى ذروتها وشكلت ذروة هذه الأحداث ما حدث في شهر شهريور.
تزامن شهر شهريور/ سبتمبر 1977 م مع شهر رمضان المبارك، ولهذا السبب أصبحت التجمعات والمنظمات الشعبية في المساجد منظمة على نطاقٍ واسع، والتي كانت تنشط بهدف القضاء على النظام البهلوي وإقامة حكومة إسلامية. الشرارة الأولى لهذه الإجراءات أطلقها الشعب الإيراني المتحمس في 13 شهريور/ ايلول ، والذي تزامنت مع عيد الفطر المبارك. وتعتبر مظاهرات هذا اليوم في الواقع بداية انتصار الثورة، وقد مهدت لانتفاضة 16 و17 شهريور. في الواقع، كانت المظاهرات الكبيرة في عيد الفطر بمثابة رصاصة النهاية في جسد النظام البهلوي، وأصبحت قوة الإسلام ورجال الدين والشعب الإيراني أكثر تجلياً.
يوم الحادثة
هتف الأهالي في مسيرة 16 شهريور/ السابع من شهر سبتمبر الكبيرة: "غداً صباحاً في ميدان ژاله" معلنين بذلك عن إستمرارهم بإقامة الاحتجاجات ضد نظام الشاه. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة والسافاك لإغلاق الشوارع في 16 شهريور، بدأ الناس مرة أخرى في المظاهرات العامة في هذا اليوم. وأرادوا بذلك إسقاط النظام الملكي مرددين شعارات الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية.
وفي أعقاب هذه الاضطرابات، قرر نظام الشاه قمع ومنع هذه الاحتجاجات في جميع النواحي. وكان إعلان الأحكام العرفية هو الحل الذي قدمه الشاه لحل هذه الأزمة، والذي تم تنفيذه بدعم من كارتر (رئيس الولايات المتحدة آنذاك).
طلب الفريق مقدم من الشاه تشكيل حكومة عسكرية لمنع تكرار المسيرة، وأخيراً وبموافقة الشاه وموافقة مجلس الأمن والوفد الحكومي تمت الموافقة على الحكومة العسكرية، وأمر الشاه بتعيين الجنرال "أويسى" قائداً للشرطة في مدينة طهران، أصدر الجنرال "أويسي" الإخطار الأول للحاكم العسكري وأعلن فيه : "من أجل تحقيق رفاهية الناس وحفظ النظام العام في البلاد سيتم اعتبارًا من الساعة السادسة صباحًا يوم 17 شهريور، تطبيق مقررات الحكم العسكري لمدة ستة شهور." وفي الصباح الباكر، تحرك الناس، دون علم الحكومة العسكرية، في مجموعات كبيرة من أحياء فرح آباد وشهباز وساحة خراسان باتجاه ساحة زالة، وكانت الشاحنات المليئة بالجنود تنتشر في الساحة أو بالقرب منها، لكن الناس واصلوا طريقهم بدون الالتفات لوجودهم.
وفي الساعة 7:30 صباحًا تقريبًا استقرت الحشود في ساحة ژاله والشوارع المؤدية إليها. حذر أحد القادة العسكريين الشعب عبر مكبر الصوت من إعلان الحكومة العسكرية، فلماذا خالفتموها و اجتمعتم؟ دعا أحد رجال الدين الناس للجلوس. وجلست الحشود على الأرض، ظهر في البداية عدم وجود نية لقوات الحاكم العسكري لتفريق الناس. لكنهم أغلقوا طرق عبور الناس من الجهات الأربع، وفجأةً، تعالت أصوات إطلاق النار من الشوارع المؤدية إلى الساحة، وبمجرد اندفاع الحشود إلى الساحة من الجهات الأربعة، فتحت القوات المتمركزة في الساحة النار على الأهالي من عدة جهات.
وفي ثوانٍ معدودة، سقط مئات الأشخاص مضرجين بدمائهم، حمل الناس الجرحى والشهداء على أيديهم بلا خوف إلى المستشفيات. وكانت غرف وممرات المستشفيات مليئة بالجرحى وجثامين الشهداء. فتح الناس أبواب منازلهم المحيطة بالمستشقى لاستقبال الجرحى. كما حضروا إلى المستشفى حاملين معهم المستلزمات الطبية من قطن وضمادات وأغطية.
لقد وصل غضب الناس إلى ذروته، انتشر خبر المجزرة في كل أنحاء مدينة طهران، اشتعلت المدينة بأكملها حزناً وغضباً على ما جرى، تدفق الناس إلى الشوارع متجاهلين وغير عابئين بالحكومة العسكرية وقراراتها، واشتبكوا مع ضباط الحكومة العسكرية. هاجم الناس كل المؤسسات الحكومية، ووفق تقرير السافاك فإن المظاهرة انتشرت من ساحة ژاله إلى شوارع أخرى في الجزء الشرقي من طهران، ثم امتدت المظاهرة إلى جنوب طهران، شارع مولوي، ساحة خراسان، ساحة شوش، وساحة راه آهن، وفي فترة قصيرة من في ذلك الوقت، أصبح شارع الفردوسي، شارع منوشهري، شارع شمال سعدي، شارع نظام آباد، شارع فرح آباد، منطقة نارماك، ساحة سبه، شارع لاله زار، مسرحًا للصراع، واستمرت المظاهرات والاشتباكات حتى وقت متأخر من الليل.
وفي اليوم التالي، أعلنت الصحف دون التطرق إلى حقيقة الصراع: "نشوب 100 حريق في طهران، واحتراق عدة فروع لبنوك ومخزن كبير ومخزن صغير في المدينة والقرية". واتهم الحاكم العسكري الأهالي، وقال إنهم نظموا مظاهرات "بأموال ومخططات أجنبية"، و"قتل 58 شخصاً وأصيب 205 في هذه الحادثة . وبعد يومين، أعلن القضاء أن عدد القتلى بلغ 95 شخصاً، كانت هذه الأرقام كاذبة، وكان عدد القتلى والجرحى أعلى من هذا. لقد كانت بشاعة مأساة قتل الأبرياء كبيرة لدرجة أن الجميع ألقى اللوم في هذا العمل الوقح على شخصٍ آخر.
وذكر السفير البريطاني "بارسونز" أن عدد الشهداء "بالمئات". وكذلك أفاد السفير الأمريكي "سوليفان" أن "أكثر من 200 متظاهر قتلوا" في ميدان ژاله. وقدر "جون ستيمبل"، أحد أعضاء السفارة الأمريكية في إيران، عدد الشهداء بـ"ما بين 200 و400" وذلك وفق المصادر الطبية. وادعى "شابور بختيار" "أستطيع أن أقول على وجه اليقين أن عدد القتلى لم يكن يتجاوز 700 أو 800 شخص". أمّا الأهالي فقد أعلنوا عن استشهاد ألآف من الأشخاص في هذه المجزرة وحتى لو لم نقبل ادعاءات الناس، فإن قتل العشرات من الناس هو أمرٌ فظيع ورهيب. وشكلت النقطة الأهم في هذه المجزرة هو تمرد الجنود على أوامر القادة العسكريين. وفي اللحظة الأولى لاستهداف الجنود للمدنيين في ساحة ژاله ، أقدم أحد الجنود على قتل قائده ومن ثم قتل نفسه.
ووفق تقرير السافاك، "هرب ثلاثة جنود من حرس الجيش أثناء قيامهم بمهمة مكافحة الشغب، بينما قاموا بسرقة ثلاث بنادق من طراز J-3 مع 300 طلقة ذخيرة". وأسماء هؤلاء الأشخاص الثلاثة هم "قاسم دهقان" و"علي غفوري" و"محمد محمدي"، وفي اليوم التالي تم اكتشاف مكان اختباء هؤلاء الجنود الثلاثة وتم تطويقهم من قبل القوات العسكرية، وتم إطلاق النار على الثلاثة واعتقالهم. واستشهد أحدهم وهو محمد محمدي، هذا وقد كشفت الوثائق فينا بعد انتحار سبعة جنود في ذلك اليوم.
مما لا شك فيه أن إعلان الأحكام العرفية جاء من أجل قتل الشعب وترهيبه، واستحضر الناس فيما جرى ذلك اليوم أحداث عاشوراء، أطلق الناس والصحفيون الأجانب على هذا اليوم اسم "الجمعة الدموية أو الجمعة السوداء" وأطلق الناس على ساحة ژاله اسم "ساحة الشهداء". وفي مثل هذا اليوم سقط عدد كبير من الناس على الأرض وملطخين بالدماء، لكن احتجاجات ومظاهرات الوطن لم تنته، بل اكتسبت مع هذه الملحمة الشعبية المزيد من القوة والسرعة في إسقاط النظام القمعي.
وبقتل الناس يوم 17 شهريور، تصور الشاه أنه يستطيع إيقاف الثورة، لكن هذه الفكرة لم تكن أكثر من فكرة كاذبة، ولم يتراجع الشعب المناضل بل عزز صفوفه القتالية. والحقيقة أن الشاه بهذه الخطوة انتحر وقطع شريان حياته، ونتجت عن هذه الحادثة ردات فعل عديدة من العلماء والمقاتلين وُنظمت مظاهرات وإضرابات عديدة، ما أدى بسرعة إلى تعطيل سير النظام البهلوي.
حادثة 17 شهريور من وجهة نظر الإمام (قدس)
سمى الإمام الخميني (قدس) حادثة 17 شهريور بأنها أحد "أيام الله"، ودعا الشعب الإيراني دائما إلى تذكر عظمة هذا الحادث وتذكر تضحيات الأمة الإيرانية في هذا اليوم. ويقول سماحته في هذا الصدد:" السابع عشر من شهريور هو "أيام الله"، يجب أن تتذكرها، يجب أن تتذكر "أيام الله" هذه. إذا فعلت؛ لا ينبغي أن ننسى "أيام الله" هذه، لأنها الأيام التي تصنع الناس. هذه هي الأيام التي تخرج شبابنا من المعسكرات وتأخذهم إلى ساحات القتال. هذه أيام إلهية أيقظت أمتنا، وقد فعلت. فيأمر: إذكروهم في أيام الله".
وقد أمر الإمام الخميني (قدس) بمساعدة الناجين من المجزرة، وطلب من رجال الدين والناس بذل الجهود لجمع الملايين من التبرعات للضحايا وعوائل الشهداء.
مجزرة 17 شهريور بداية نهاية النظام
نشرت أخبار المجزرة التي ارتكبها النظام البهلوي في الصحف المحلية التي كانت تحت سيطرة النظام البهلوي بشكلٍ مقتضب، ولكن نشرها في الصحف الأجنبية، جعل العالم يتعرف على وحشية النظام البهلوي ضد شعبه.
وعقب هذا الحادث، اندلعت موجة من الاحتجاجات والمواقف ضد هذا العمل الوحشي للنظام بهلوي داخل إيران وخارجها. ودفعت الأحزاب والجماعات المحلية والأجنبية إلى مواصلة أنشطتها في بيئة سياسية منفتحة نسبيًا، ومن خلال نشر المنشورات والإعلانات، التي تدين قتل الأشخاص وتدين النظام البهلوي بطرقٍ مختلفة.
نتائج مجزرة 17 شهريور
تصور النظام البهلوي بإرتكابه هذه المجزرة وقتل الناس أنه أوقف الثورة الإسلامية لكن لم يحدث ذلك فحسب، بل اشتدت صفوف معارضي النظام. إن الأعمال الوحشية التي قام بها النظام البهلوي يوم الجمعة السوداء خلفت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، الأمر الذي اعتبر سبباً في اهتزاز أسس النظام البهلوي، ما دفعه للتبرئ من قتل الناس، فكل مسؤول يلقي باللوم في هذه الحادثة على شخص آخر.
ختاماً لا شك أن انتفاضة 17 شهريور يمكن اعتبارها إحدى نقاط التحول في نضال الأمة الإسلامية في إيران ضد النظام البهلوي. إنّ الأبعاد الهائلة لقتل وقمع الأبرياء في هذا اليوم جعلت الثوار وقادتهم أكثر تصميماً على حركتهم، وفي هذه الأثناء لعبت القيادة الحكيمة المتمثلة بالإمام الخميني (قدس) دوراً مهماً. كما أدى دعم ما يسمى بالقادة الأمريكيين لنظام الشاه في قمع المسلحين إلى فقدان ما يسمى بحقوق الإنسان والمطالبات الديمقراطية صدقيتها بين الناس وكُشف زيفها أمام الشعب الإيراني. وبشكلٍ عام، ينبغي القول إن انتفاضة 17 شهريور الدموية كانت عاملاً فعالاً في تكثيف النضالات الشعبية وتسريع سقوط النظام البهلوي.