الصفحات
  • الصفحه الاولي
  • محلیات
  • اقتصاد
  • دولیات
  • الثقاقه و المجتمع
  • مقالات و المقابلات
  • الریاضه و السیاحه
  • عربیات
  • منوعات
العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وستة وعشرون - ٠٩ سبتمبر ٢٠٢٣
صحیفة ایران الدولیة الوفاق - العدد سبعة آلاف وثلاثمائة وستة وعشرون - ٠٩ سبتمبر ٢٠٢٣ - الصفحة ٥

البوصلة والأظافر وأفول المطر (2)


د. سناء الشعلان

تكلّم طويلاً عن تجربته في المعتقل،لم يستخدم كلمة أنا أبداً، دائماً كان يقول نحن،كلماته نقلتنا إلى المعتقل،هناك عرّفنا بالأبطال اسماً اسماً، ووجهاً وجهاً، وقصة قصة،كنّا نسأله بفضول وشره،فيجيبنا عنهم بإسهاب وتفصيل،كنّا نكلّمه عن هنا، فيحدّثنا عن هناك،كنّا جميعاً غائبون، وهو وحده الحاضر.
يومها صمّمتُ على أن أكون في أقرب مسافة من هذا الرّجل ذي الصّوت السّماويّ، ودفنت صورته المتخيّلة في أبعد نقطة خارج ذاكرتي؛فما حاجتي  إلى الصّور الباذخة التّمنّي،وأمامي الحقيقة وافرة الصّدق؟!
لم أكن الوحيدة التي أرادت أن تكون في أقرب مسافاتها من هاشم، فهناك الكثير من أفراد العائلة الذين أرادوا أن يقتربوا من هذا الرّجل المثقل بالصّمت على الرّغم من موهبته الفطريّة في البوح الآسر المؤثّر، ولكنّني كنتُ الأكثر حظّاً في الحصول على النّصيب الأكبر في الاستماع إليه، وفي مرافقته في كثير من الدّعوات العائليّة والمحافل الشّعبيّة التي استضافته بفضول مجلوب مفتعل لتزيد من رصيدها الشّعبيّ، وتستعرض قائمة جمهورها غير العريض في غالب الأحيان،ثم نسيته تماماً بعد أن حقّقت هدفها الإعلاميّ منه.
وأخيراً خلا لي وجه هاشم ووقته واهتمامه، ولكنّه عندها كان وجهاً كسيفاً فيه خرائط حزن بائد لا تضاريس جبال شمّاء كما هي نفسه الأبيّة العصّية على الكسر أو الصّهر أو الإستلاب، قدّر سريعاً بحسّه المرهف أنّ الجمع قد انفضّ من حوله، وخلّوا بينه وبين أحزانه، ليجرع منها ما شاء، فقد نفِدَ نصيبه من الاهتمام المجتلب المصنوع، أحد لم يسأله عن حاضره أو مستقبله،قليل من عرفوا عن وحدته وخواء جيبه من أيّ قرش،وشخصان أو ثلاثة هم من سألوه عن سرّ بوصلته النّحاسيّة أو أظافره المنزوعة من أصابعه.
 أمّا أنا فتحوّلت أقداري من امرأة حالمة بفارسٍ أسطوريّ تفكّر في خبثٍ بأن تحصل من هاشم على مادة شيّقة لتقرير صحفيّ يصلح لأن ينشر في عامود بارز في صحيفة يوميّة مشهورة إلى صديقة مخلصة تحرص على أن تستمع باهتمام موصول لبطل حقيقيّ قرّر الجميع في خضمّ صخب حيواتهم أن يسرقوا فمه منه،ليعتقلوه من جديد في صمت خبيث.
حكايا هاشم كانت بوصلة لا تشير إلاّ إلى الوطن فلسطين وإلى العودة،كانت طُرقه كلّها تقود إلى دربٍ واحد،وهو درب العودة إلى بيت نتّيف،كان حريصاً في كلّ مكان يذهب إليه على أن يمدّ أصابعه العارية من الأظافر إلى جيبه ليخرج بوصلته النّحاسيّة القديمة، ويفتحها ليرقب إبرة المؤشّر تشير إلى اتّجاه فلسطين، وكأنّه في مسير مستعجل نحو العودة،كان يقول لي دائماً إنّه عائد في القريب إلى قريته،وهناك سيعيش في بيت العائلة في الحارة (التّحتى) (التّحتى:أيّ الجنوبيّة،إذ كانت قرية بيت نتّيف قبل هدمها تتكوّن من ثلاثة حارات رئيسيّة. )، وسيتزوّج من بنات عائلة أبو حلاوة (أبو حلاوة: هي إحدى عائلات قرية بيت نتّيف. )؛ لأنّهنّ الأشدّ جمالاً وخصوبة في نساء القرية، وسيعيش وأولاده العشرة الذين يريد أن ينجبهم من ريع الأرض، فهو فلاّح ابن فلاّح، ولا يتقن إلاّ أن يكون كذلك.وعندها يشتاط انفعالاً،فتغلب الحُمرة على خدّيه،وكأنّ الحياة ردّت إليه فجأة بعد رحيل وهو يرفل في أمنياته،كان يحرّر يديه من سجنهما الجيب،ويشرع يستنطقهما في حركاته وهو يتكلّم بإسهاب أخضر مورق بالسّعادة عن أدق التّفاصيل قرية بيت نتّيف،فيطوّف بي على عائلات حاراتها الثّلاث،ويعدّد أسماء ساداتها، ويتتبّع أنسابها، ويؤكّد في كلّ مرّة أنّ كثيراً من أفخاذ عائلاتها كادت تنقرض في تصّديها الشّجاع لعصابات اليهود الواغلة في أراضيهم في عام 1984،ثم يطوّف بي على قاعة السّحلة والمالحة وبير الصّفصاف وخربة أم الذّياب وخربة أم الرّوس وجسر الأربعين ومراح أبو جهنّم وسهل حمّادة(أسماء أماكن جغرافيّة في قرية بيت نتّيف..).
وعندما يحين وقت المساء يصمّم على أن يعود إلى بيته راجلاً بحجّة رغبته في بعض الرّياضة، وأنا أعلم علم اليقين أنّه لا يملك ثمن أجرة حافلة تنقله إلى بيته، فأصمت رحمة بحاجته الأبيّة على الشّكوى والاستجداء.
فأضحك عندها،ويضحك هو،ونتكلّم في أيّ موضوع إلاّ عن أظافر يديه المنزوعة بالكامل تعذيباً في المعتقل الصّهيونيّ التي أؤجّل السّؤال عنها إلى وقت آخر لا أعرف متى يكون، دون أن أعرف أنّ لا مزيد من الوقت أمامي، بل أمامه؛ فقد مات هاشم بهدوء وحيداً في بيته الغرفة في المخيّم بعد أن سافرت أمّه لتحقّق حلمها بأن تزور البيت الحرام قبل أن ترحل إلى العالم الآخر.
مات هاشم وفي كفّه بوصلته، وعلى شفتيه ابتسامة صافية كروحه المهر التي لا تبالي بأن تفارق جسده في ليلة صيفيّة لا ممطرة من ليالي المربعانيّة كما كان يتوقّع، مادامت طليقة تحلّق نحو وطنه فلسطين لتخلد هناك إلى الأبد.

 

البحث
الأرشيف التاريخي