الباحث في العلوم السياسية الدكتور عماد الدين الحمروني لـلوفاق:
فرنسا أكبر عائق أمام تقدّم الشعوب الإفريقية
محمد أبو الجدايل
أظهر الانقلابيون في الدول الافريقية التي شهدت انقلابات تمسّكا بالاستقلال وطرد الفرنسيين منها، حيث تواجه فرنسا وحلفائها في افريقيا مواقف إقليمية تعارض التدخل العسكري، وهو الموقف الذي عبّرت عنه كل من مالي وبوركينا فاسو وغينيا -التي يقودها عسكريون- وكذلك الجزائر، في حين يقف مجلس الأمن والأمم المتحدة موقف المتفرجين من التدخلات الفرنسية في الدول الإفريقية، وفي ضوء غياب إدانة دولية لمواصلة السطوة والتعنّت الفرنسي إزاء الشعوب المتعطّشة للإستقلال في إفريقيا، خصوصا أن فرنسا تواصل عجرفتها إزاء الدول الإفريقية التي تمكّنت من طرد الفرنسيين المنتفعين من ثرواتها.
بعد أن شهدنا إنقلاباً عسكرياً في الغابون الدولة الغنية بالنفط والكاكاو والفقيرة رغم ذلك إثر وطأة وسطوة الإستعمار الغربي الفرنسي لها، شهدنا إنقلابات أخرى في النيجر وبوركينا فاسو منذ العام الماضي حتى الأشهر الأخيرة المنصرمة، أعقب ذلك تحشيد جيوش تكتل ايكواس الذي يدار من قبل الغرب، وتلويح فرنسي صلف بشنّ عمليات عسكرية لإعادة حكومات موالية لباريس المتلاشية في القارة السمراء الى سلطات الدول الافريقية المنتفضة بوجه الاستعمار، سلسلة من التطورات المتسارعة في القارة الافريقية، هل نشهد تحوّلا نحو الإستقلال ولفظ الإستعمار في القارة السمراء؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟
للإجابة على هذه الأسئلة وأخرى عدّة "تراود أذهان" العديد من المتابعين للتطورات العالمية، أجرت صحيفة "الوفاق" الدولية حواراً مُفصّلاً مع الباحث في العلوم السياسية الخبير الإستراتيجي التونسي الدكتور عماد الدين الحمروني، تلقف خلاله كل زوايا وأبعاد التطورات الجارية في القارة السمراء، لم يقف الحمروني عند مجريات الوقت الراهن إنما عاد بنا خلال الحوار الى تلك الحقبة الزمنية التي خيّمت خلالها "سحابة المستعمر الغربي السوداء" فوق رؤوس الأفارقة حتى اليوم الماثل، ليستعرض للقارئ أهمية تلك الحقبة من زاوية قواعد اللعبة التي وضعها الغرب في إفريقيا لتحوّل حياة الإفريقيين الى جحيم مُطبق في حين تنعم دوله (الغرب) بثروات تلك الدول الغارقة بالثروات.
منطقة تنافس للنفوذ
عن تلك الحقبة الزمنية يقول الدكتور الحمروني لـ الوفاق: مثّلت القارة الإفريقية منذ القدم وإلى الآن منطقة تنافس للنفوذ بين أهمّ و أبرز القوى الحاكمة في العالم، وللتذكير قامت إمبراطوريات عظيمة عبرالتاريخ بإفريقيا وأهمها قرطاج بتونس والفراعنة بمصر وفي العهد الإسلامي ظهرت أهم الدول، الدولة الفاطمية الكبرى ودولة الموحّدين وسلطنة دولة مالي أعظم امبراطورية اسلامية بإفريقيا في التاريخ ومؤسّسها منسي موسى الذي يُعتبر أغنى رجل في التاريخ.
ويكمل الخبير الإستراتيجي التونسي: إفريقيا الغنية حضاريا وماديا سقطت تحت حكم الأوروبيين، يعتبر القرن التاسع عشر قرن التوسع الاستعماري في القارة الإفريقية، التي تسابقت إليها البلدان الأوربية لكسب الأراضي واستغلال مواردها لخدمة بلدانها التي كانت تشهد تطورا ملحوظا في مختلف مجالات الحياة. ومن أجل التخفيف من الصراع بينها عقدت مؤتمر برلين الذي انتظمت بعده الحركة الاستعمارية في القارة الإفريقية.
مؤتمر برلين وتنظيم الإستعمار
ويُبيّن الحمروني كيف تقاسم الإستعمار الغربي سيما الدول الأوروبية آنذاك الكعكة الإفريقية فيما بينها حتى لا يدبّ الخلاف فيما بينها عليها، قائلاً: انعقد مؤتمر برلين في الفترة الواقعة بين شهري نوفمبر 1884 وفيفري 1885، بمدينة برلين عاصمة ألمانيا بهدف تنظيم استعمار القارة الإفريقية بين البلدان الاستعمارية الأوربية. يُعتبر ليوبولد الثاني ملك بلجيكا من الأوائل الذين عملوا لإستعمار إفريقيا، ففي سبتمبر من سنة 1876 قام بجمع مؤتمر في بروكسل للجغرافيين الدوليين. شارك في المؤتمر سياسيون ومستكشفون إلى جانب الجغرافيين، بهدف تسهيل استكشاف القارة وحماية أهلها من تجارة الرقيق. حاول ليوبولد الثاني بهذه الطريقة تحقيق أهدافه الشخصية في السيطرة مُظهرا اهتمامه الإنساني.
يضيف مُوضّحاً: حمل ذلك المؤتمر اسم "المؤتمر الجغرافي العالمي" ثم تألفت "الجمعية الدولية لكشف إفريقيا وإدخال الحضارة إليها"، هذه الجمعية التي أرسلت عدة بعثات إلى شرق إفريقيا في بحيرة تنجانيقا تحديدا، حيث تم إنشاء محطة بلجيكية في كريما على بحيرة تنجانيقا، لكن سرعان ما صرفوا النظر عنها.
أول مُستعمرة وتثبيت الأقدام
ويتابع الخبير الإستراتيجي التونسي: أبرز شخصية فاعلة في هذه الجمعية هو الصحافي الإنكليزي ورجل الأعمال "السير هنري مورتون ستانلي" كان إهتمام ملك بلجيكا حينها ببلاد الكونغو وفي سنة 1878أسّس جمعية الكونغو الدولية، وحرص أن تعترف بها دول العالم فكانت أوّلها الولايات المتحدة الأميركية سنة 1882 وبعدها بريطانيا وهكذا تشكلت دولة إفريقية مستقلة ذات سيادة باسم دولة الكونغو الحرة سنة 1885 لها علمها الخاص، ويقوم بإدارتها الملك البلجيكي ليوبولد.
ويُردف مُبيّناً كيف كان يقوم الأروبيين بترسيخ أقدامهم في القارة السمراء بشكل تدريجي في تلك الفترة: سافر ستانلي عدة مرات إلى الكونغو، وعقد 500 معاهدة مع الشيوخ والرؤساء المحليين. وأرسل الملك حملات عسكرية إلى أبعد مسافة ممكنة وفي كل الاتجاهات، (وتأسست مدينة ليوبولد فيل عام 1882.) حينها برز التنافس الفرنسي /البلجيكي وكانت فرنسا تملك الأراضي المحيطة بمصب الغابون منذ عام 1858، وتمتد إلى أقاليم الكونغو وأقاليم الأوبانجي. ودخل البرتغالي الى الخط وساندته بريطانيا حينها، البرتغال التي قامت لتذكر العالم بحقوقها التاريخية على سواحل الكونغو، لأنها أول من كشف مصب النهر في القرن الخامس عشر. واتفقت الدولتان في 26 فيفري 1884 على أحقية البرتغال في الاستيلاء على إقليم الكونغو وحرية الملاحة الدولية في نهري الكونغو والنيجر.
تغيير ملامح الخريطة السياسية لإفريقيا
وبشأن تصارع الأوروبيين على الهيمنة في القارة الافريقية حينها، يتابع الحمروني لـ الوفاق: أمام الدّهاء البريطاني وأمام عقد هذه الاتفاقية وخوف فرنسا على مصالحها، وقع تقارب بين فرنسا وألمانيا –رغم عدائهما التقليديء واتفقتا يوم 17 أوت 1884 على المطالبة بعقد مؤتمر دولي لإفشال ما وقع الاتفاق عليه بين بريطانيا والبرتغال بخصوص منطقة الكونغو.كان مؤتمر برلين تتويجا لجهود القوى الكبرى لتنظيم السيطرة على القارة الإفريقية. وهو ثمرة من ثمرات الدبلوماسية الأوربية في صراعها على القارة. وقد تمت معظم أعمال التقسيم خلال وبعد المؤتمر، الذي أسفر عن تغيير ملامح الخريطة السياسية لقارة إفريقيا.
وهكذا توزعت مناطق النفوذ في إفريقيا على الشكل التالي:
1- منطقة النفوذ الفرنسي: تشمل بلدان شمال غرب إفريقيا وإفريقيا الغربية وإفريقيا الوسطى الاستوائية.
2-منطقة النفوذ البريطاني: تشمل غامبيا وسيراليون وساحل الذهب ونيجيريا في غرب إفريقيا بالإضافة إلى جنوبي إفريقيا وشرقها وشمالها الشرقي.
3-منطقة النفوذ البلجيكي: تشمل حوض نهر الكونغو بأكمله.
4-منطقة النفوذ الألماني: تشمل الطوغو والكامرون وجنوب غربي إفريقيا في الغرب، وطانجانيقا ورواندا وبورندي في شرقي القارة.
5-منطقة النفوذ البرتغالي: في غينيا البرتغالية (بيساو) وأنكولا وإفريقيا الشرقية (موزمبيق).
6-منطقة النفوذ الأسباني: الصحراء الغربية الريف وإيفني المغربيتين – غينيا الاستوائية.
7-منطقة النفوذ الإيطالي: وتشمل ليبيا وأريترياء الصومال.
أهمية القارة الإفريقية في بناء قوة الغرب
ويكمل موضّحاً أهمية تلك التطورات في بناء قوّة الغرب: هذه المقدّمة التاريخية تظهر أهمية القارة الإفريقية في بناء قوة الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكفاح الشعوب الإفريقية من أجل إستعادة سيادتها وهويتها وإستقلالها منذ ذلك التاريخ. لقد تغيرت خريطة القارة السياسية في أقل من عشرين سنة بعد مؤتمر برلين. ففي سنة 1902 لم يبق خارج السيطرة الاستعمارية سوى أجزاء بسيطة منها تساوي 8 % من مساحة القارة، تشمل (ليبيريا وإثيوبيا والمغرب الأقصى وليبيا). وأصبحت سبع دول أوروبية تسيطر على القارة بعد أن اقتسمتها فيما بينها: بريطانيا فرنسا البرتغال إيطاليا إسبانيا ألمانيا بلجيكا.
وبشأن تبلور أولى ملامح الأفكار المناهضة للغرب الاستعماري في القارة السمراء، يتابع الحمروني بالقول: انتصار الشيوعية في الإتحاد السوفيتي سنة 1917 والصين سنة 1949، كان له أثر على مستوى تكون الأفكار والاتجاهات المناهضة للغرب الاستعماري. وقد ظهرت على إثر ذلك مجموعة الدول الضعيفة المتضامنة فيما بينها باسم جديد هو العالم الثالث ودول عدم الإنحياز.
حركات التحرّر الوطني الإفريقية
وبشأن التطورات الأخيرة في إفريقيا وما تشهده من موجة انقلابات مُتسارعة وطاحنة باتت ككرة ثلج تأخذ معها كل نظام ديكتاتوري عميل للغرب، يقول الحمروني: حركات الإنقلاب العسكري الأخيرة تأتي في سياق حركات التحرّر الوطني الإفريقية التي نشأت أوائل القرن الماضي من أجل الإنعتاق والحرية. اليوم في ظلّ تغيّر موازين القوة في العالم وبداية ترهّل النظام العالمي وبروز قوى جديدة مثل الصين الشعبية وروسيا الإتحادية والهند من جهة وفشل جل الحكومات الإفريقية المنصّبة من الغرب في معالجة الفقر والبطالة وسوء الإدارة والفساد العام من جهة أخرى، شجّع العديد من العسكريين الشبان بأخذ زمام المبادرة والإنقلاب على المستعمر الفرنسي الذي يُصرّ على البقاء والهيمنة.
رأس حربة نظام الهيمنة الغربي
شكّلت الكتلة الأنغلوسكسونية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية رأس حربة نظام الهيمنة الغربي منذ الحرب العالمية الأولى، واليوم نلاحظ أنها تعيد ترتيب أولويتها وتمركز قواتها العسكرية بريا وبحريا، وتستعد لمواجهة مصيرية مع الصين وروسيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتمثّل إفريقيا أهمية كبيرة عسكريا وإقتصاديا هي تسفيد من التراجع الفرنسي وربما تقف بعض الجهات البريطانية والأميركية وراء بعض الشخصيات والضباط في كل من الغابون والنيجر، دول غنية بالموارد الطبيعية المعدنية والنفطية وممرات برية مهمة للغاز نحو أوروبا، وأيضا للتمركز العسكري خاصة لقواعد المسيّرات. فرنسا لن تتراجع بسهولة عن آخر محمياتها ولديها الإمكانيات العملاتية للضغط على هذه الدول خاصة النيجر وبوركينافاسو.
ثني فرنسا عن التلويح العسكري
وعن التهديدات والتهديدات المضادة بين انقلابي النيجر وبين دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وعن المقترح الجزائري لحلّ الأزمة، خصوصاً أن الجانب الفرنسي متمسك بموقفه بشأن إيصال القادة المنجذبين نحوه الى سدّة الحكم، يوضّح الدكتور الحمروني لـ الوفاق: سارعت الجزائر منذ الساعات الأولى إلى رفض إنقلاب العسكر في النيجر وطالبت بإحترام الدستور والعودة إلى الحكم المدني وتغليب الحل السياسي للأزمة بالنيجر، ونلاحظ أن الموقف الروسي والصيني والأمريكي يدعّم موقف الجزائر. إن أي عملية عسكرية تقوم بها فرنسا عن طريق منظمة (إيكواس) ستكون كارثية على الأمن القومي الجزائري وأيضا تأثيرا هامّا على الوضع في ليبيا الغير مستقرّة سلفاً، لذلك ستعمل الجزائر مع أصدقاءها الأفارقة وأيضا مع أمريكا التي تملك قاعدة عسكرية مهمة لقواتها الخاصة قوامها 1500 عسكري وقاعدة للمسيرات والإستخبارات بالنيجر، للضغط على الجانب الأوروبي وخاصة الفرنسي لعدم التدخل عسكريا.
دور فرنسا في إستدامة الفقر والتخلّف
ويضيف قائلاً: فرنسا الإستعمارية وخاصة دوائرها السياسية والإقتصادة والإستخبارتية ساهمت بشكل كبير في إستدامت الفقر والفساد والتخلّف خاصة في دول الساحل الإفريقي، في حين إستفادت من خيراتها لصالح إقتصادها وقوتها الجيوسياسية والعسكرية على مدى قرابة قرن ونصف، لذلك تعتبرها الشعوب الإفريقية أهم عائق لتقدّمها ولتحقيق رفاهها الإجتماعي وبناء دول ذات هوية إفريقية وسيادة وطنية.الدكتور حمروني يختتم حواره مع الوفاق برؤية مُفعمة بنوع من الأمل إزاء ما يحدث من تطورات، ويقول: طريق إفريقيا نحو التحرّر الكامل مازال طويلا لكن هناك فرصة تاريخية لطرد المستعمر الغربي، وبناء علاقات رابح/ربح مع القوى الصاعدة في العالم، من قبيل مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي وغيرها.