بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لإخفاء الإمام موسى الصدر وأخويه
عيش واحد في مواجهة حرّاس التخلّف وتجّار الطائفية
الوفاق/ خاص
د.خليل حمدان
تأتي الذكرى السنوية الخامسة والأربعون لإخفاء الإمام السيد موسى الصدر واخويه سماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي السيد عباس بدر الدين ولبنان يعاني من ازمات متلاحقة على اكثر من منحى وصعيد في ظل شلل عمل الادارات في الدولة اللبنانية كنتيجة لإستمرار الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية وصولا الى حكومة تصريف الاعمال. كل ذلك ما كان ليحصل لولا تلك المواقف المتعنتة ظاهرها يتستر بالحرص على مستقبل البلد وباطنها يكمن بالاستقواء بالطائفة على الوطن بالرغم من انسداد الافق وعدم القدرة على تحمل تمرير الوقت الذي لا نملك ترفه، فيما الاستحقاقات الداهمة والقريبة جدا قد تضاعف من حدة الازمة التي بات عمقها غير منظور، ما ينذر بالكارثة اذا لم نتداركها بفتح مغاليق اللقاء والحوار لتجسير الهوّة وصولا لرتق هذا الانقسام المتمادي بتواصل حواري دعى اليه الرئيس نبيه بري تجنبا لما هو أخطر وأمر، وهنا تبدو الوطنية الحقّة بالابتعاد عن الشعبوية واتخاذ مواقف قد تخسر فيه بعض القوى تصفيق الضعفاء وضجيج الانفعاليين الذين يضربون بالمصلحة الوطنية عرض الحائط.
ومما لا شك فيه ان سلوك طريق الانهيار هو نوع من انواع الارهاب الفكري خاصة وانهم يضربون منظومه القيم المرتكزة على اللقاء من اجل خدمة الانسان بتعبير الإمام السيد موسى الصدر الانموذج الذي معه تكمن سبل الخلاص نحو التعافي وعملية النهوض الوطني بل ان ادراج رؤى الإمام الصدر في مواجهة المرتكبين باسم الدين يمكن ان تشكل خارطة طريق سليمة توصلنا الى بر الامان تفاديا للكثير من حالات التحلل والتفسخ بعدد من المؤسسات والادارات وتجنب الوصول الى الشارع الذي ينقاد مع الاسف لبعض العابثين بمستقبل الشعب نفسه وما يشكل ذلك من انعكاسات على صعيد الاستقرار الامني والمعيشي. وها نحن نستعيد الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لاخفاء الإمام الصدر فنستحضر مواقفه التي لم تغب عن بال المخلصين، آخذين من معين مائه الثر قطرات ومن درره نثرات.
الإمام الصدر وإرادة العيش المشترك
لم يأت الإمام الصدر الى لبنان اواخر الخمسينات من القرن الماضي ليستكشف الواقع اللبناني الذي يضم طوائف ومذاهب متعددة، بل ان لبنان يشكل له انتماء، فهو ارض الاجداد جذوره فيه وفروعه في ايران ولذلك كان كثير البحث عنه ويمتلك منظومة معرفية عن تركيبة هذا البلد. وكما اشار الإمام الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره امام زواره عام 1957:" ان السيد موسى الصدر وجدْتُه واسع الاطلاع على الواقع اللبناني وتركيبته الطائفية وهموم المناطق فيه" ولذلك فان الإمام الصدر لم يتوسل طرق التعرّف على هذا البلد بل اختار لبنان لان ذاكرته وعلمه ووعيه ورسالته جعلته يراهن على ان يكون لبنان مدخلا حضاريا الى العالم بدل ان يكون حلبة صراع للمكونات الدينية او الطائفية. فالمطلوب والاجدى بنظر الإمام ان نضع الطوائف في سياقها الوطني الذي يحفظها وتحفظه وهذه القاعدة لا زالت صالحة وهادفة، واعتبر الإمام في بداية حضوره الى لبنان ان نجاح التجربة بين الطوائف بمثابة تحدٍ لعنصرية اسرائيل ونجاح التجربة اللبنانية، كما يعتبر فشلاً ذريعاً لإدعاء العدو الصهيوني بعدم القدرة على تعايش الاديان والطوائف، والإمام يقول اذا سقطت تجربة لبنان فستظلم الحضارة الانسانية، ويضيف ايضا: ان التعايش ليس ملكاً للبنانيين بل امانة في يدهم.
الإمام لم يكن نظريا
ان رؤى وتطلعات الإمام السيد موسى الصدر لم تكن مجرد مواقف اعلامية يغيب عنها التطبيق بل كان القائل الفاعل لما تمثل عنده من قيم انسانية انطلاقا من الشعور الوطني والقومي والانساني، وان كان من الصعب ان نحشد كل الأدلّة على انسجام النظرية والتطبيق في العيش الواحد والحرص عليه فلا بد من ادراج بعض المواقف:
1- حضوره في الكنائس والمساجد والجامعات والاندية والمدارس وكلمته بمناسبة تقبل التعازي برحيل البابا يوحنا الثالث والعشرون في صور حيث تحدث وشرح باسهاب رسالة السلام على الارض للبابا الراحل نفسه وكان لها صدى ومدى يؤكد على سعة الاطلاع ومتابعته ما دفع باللجنة المنظمة لتتويج البابا بولس السادس لدعوة الإمام الى الفاتيكان لحضور حفل التتويج وكان للامام هناك في روما مواقف وصولات وجولات عن هدفه الاديان من اجل الانسان معتبراً ان مواجهه الظلم شرط اساسي من مهام جميع الاديان.
2- اقامة احتفال انتقال السيدة العذراء في بلدة شقراء في 15 اب عام 1964 حيث تحدث عن السيدة الطاهرة السيدة العذراء وعن رسالة السيد المسيح بوجه لصوص الهيكل المعتدين كما تحدث ايضا الاب غريغوار حداد في ذلك الاحتفال مستخلصا المعاني والعبر من اقامة هذا الاحتفال على تخوم فلسطين المحتلة. والسؤال الكبير لماذا اختار الإمام الصدر ان يقيم مناسبة انتقال السيدة العذراء في بلدة شقراء التي لا يوجد فيها مسيحي واحد بل هي بلد العلماء كالعلاّمة السيد محسن الأمين والسادة آل الأمين. والاجابة واضحة: ان الإمام كان يريد ان يعمم فكرة العيش الواحد لتكون الاعياد في خدمة لبنان ولمواجهة المشروع الصهيوني القائم على العنصرية ودرءاً لخطر التشوهات التي قد تحصل بالنظام اللبناني اذا اسقط تجربة العيش الواحد. ذلك لأن الصراع قد يكون العامل الاوحد لقوى لا يجمعها حوار ولقاء.
3- اعتراف الإمام بالاخر والتكامل معه؛ في حواره الى مداه الابعد وما بات معروفا بتاريخ 17/1/1977 يقول الامام "" ان كلمة البطريرك خريش في عيد الميلاد هي وحدها تصلح لان تكون ورقة للبحث السياسي المستقبلي"" تصلح حتى ان تكون الخيارات فليكن لنا وطن يرسمه البطريرك في رسالة الميلاد الاخيرة، ان هذا التناغم يؤكد على اهمية التبادلية والغيرية وهو منهج حضاري اجتماعي متطور اطلق عليه الفلاسفة المنهج الاجتماعي الغيري انا أكون لأننا نكون .
4- مواجهة الاعتداءات الصهيونية على لبنان وانشاء هيئة نصرة الجنوب؛ امام التلكؤ الرسمي والبرودة الحكومية في مواجهة الاحداث وبعد النزيف الحاد والهجرة القسرية لابناء الجنوب، دعا الإمام الصدر الرؤساء الروحيين في الجنوب لتدارس الاخطار ومعالجة الوضع، وتشكلت هيئة نصرة الجنوب من كبار العلماء ورجال دين مسلمين ومسيحيين وبتاريخ 20/5/1970 حيث اقرت هذه الهيئة بيانا اعدّه الإمام الصدر واذاعه بنفسه قائلا :"ان الجنوب لفي خطر ولا يخاَلنّ خائل اذا سقط الجنوب أن سياجا من السحر يسور لبنان او خيمة من الغيب تغطي عليه وشواهد التاريخ شواهد على امم بادت واوطان زالت وقوميات غدت كاساطير الأولين! انهم لنصرة الجنوب ونصرة لبنان ولا تنتظر وقوع الكارثة فاما ان نكون شعبا مؤهلا للبقاء جديراً بالاستمرار او شعبا سقط في مستنقعات الوجود ثم انسحق بين دواليب الزمن"" واضاف البيان:" ان عضوا من وطنكم اليوم يمشي اليه البتر ان جزءا من تاريخكم وهو الاعظم يرقد الى القبر ان ساعة النفير تدق بتجميع وتجنيد سائر الطاقات والامكانات المالية والمادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب ويهدد كل لبنان"".
فعاماً بعد عام والإمام الصدر يتألق حضورا في قلوب الناس حيث شاء ان يكون عرشه محروسا بعيون المقاومين سره امل المعذبين وصرخة مستمرة في وجه الطغاة معتمدا على الناس، فيدهم تضارع عزيمته قوة واقتدار خطب في الناس بالشوارع فصلوا وامهم في المساجد فثاروا، يسترشد القران ويصدح باسم الله خذوا زينتكم عند كل مسجد وبمأثور الكلام السلاح زينه الرجال فهو العصي على الغياب، بل يأبى الاختزال في سيرته ومساره، تجربته باتت نقطة الارتكاز والبوصلة حارب العدوان الصهيوني والحرمان والنداء احذروا العصر الاسرائيلي اذ لا يمكن لسيادة العصر الاسرائيلي ان تبصر النور الا بتهويد القيم ويبقى الإمام حارس صحوتنا، وفي كلماته وموقفه المؤشر السليم لحركة الانسان نحو الله في خدمة اخيه الانسان ويبقى الانتظار لأهل الانتظار وكلمة السر العمل من اجل الانسان.
أجل، لقد سحقت عجلة الايام المجرم معمر القذافي الذي سيذكره التاريخ طاغية يمتهن التمادي بالاعتداء على الانسانية والانسان وإن اخفى الإمام الصدر واخويه، فإن كل القيود لم تحل دون حضورهم في ساحة الجهاد والعطاء، سيعودون وسيعود الإمام ليحاكي المقاومين.. شهداء وأحياء، وتستمر مسيرة إزالة الحرمان وبناء لبنان.