في ذكراهم الثانية والأربعين
رفيقا الدرب والشهادة «رجائي» و« باهنر» ... تفاصيل قصة استشهادهما
مرّت إيران، في الفترة التي تلت هروب الشاه وانهيار نظامه في شباط / فبراير 1979، بموجة فوضى عارمة اجتاحت طول البلاد وعرضها، وخصوصاً المدن الكبرى، بما فيها العاصمة طهران. واستمرّت تلك الفترة الحرجة والحاسمة في تاريخ إيران الحديث، ما يقرب من ثلاث سنوات، إلى أن تمكّن نظام الثورة الإسلامية من ترسيخ أقدامه وتثبيت دعائم حكمه القائم إلى اليوم.
في البداية، قرر الإمام الخميني (قدس) الانفتاح على كلّ القوى والاتجاهات الإيرانية التي كانت معارضة للشاه، الليبيرالية - الوطنية والقومية - الاشتراكية واليسارية - الشيوعية، واعتبرهم جميعاً شركاء في الثورة والتغيير. لكن، كما في كلّ الثورات الكبرى في التاريخ حين تنتصر، كانت حالة التعدّدية لا يمكن أن تستمر، وكان لا بدّ من الحسم. وأتى الأمر تلقائياً، وبدون أن يضطرّ الإمام الخميني(قدس) أن يفعل بذلك، بل كانت المبادرة من الطرف الآخر. كانت "منافقي خلق" المنظمة الأبرز في المعارضة الإيرانية لنظام الشاه، بعد التيار الإسلامي بقيادة الإمام الخميني (قدس)، وكانت هذه المنظمة تتبنى خليطاً من الأفكار الإسلامية والماركسية، وكانت تنظيماً شرساً في الواقع، وطبعاً، لم تكن متوافقة مع رؤى الإمام الخميني (قدس) ونظرته لمستقبل إيران.
استباحة الدم الإيراني وعمليات إجراميه نفذتها المنظمة
بدأت المنظمة سلسلة من الإعمال الإرهابية ضد الحكومة والشعب على السواء، فقد قامت بتفجير العشرات من السيارات المفخخة في الشوارع الإيرانية، والتي راح ضحيتها الكثير من المواطنين الأبرياء، كما قامت بعمليات اغتيالات واسعة شملت رموز النظام الإسلامي وقيادات سياسية وبرلمانية، ففي 28/6/1981 وتم تفجير مقر الحزب الجمهوري الذي كان يرأسه آية الله الدكتور "محمد حسيني بهشتي" رئيس مجلس القضاء الأعلى ومن كباري منظري الثورة الإسلامية والشيخ محمد منتظري وسبعين عضواً من برلمانيين ووزراء ومسؤولين رفيعي المستوى، وسرعان ما أُتبعت هذه العملية بعملية أخرى لا تقلّ عنها ضراوة. هذه المرة، المستهدف كان رئيس الجمهورية الذي لم يمضِ سوى شهر واحد على انتخابه، محمد علي رجائي. كان الرئيس يحضر اجتماعاً في مقرّ رئاسة الوزراء لمجلس الدفاع الأعلى، حين انفجرت قنبلة أسفرت عن مقتل مجموعة جديدة من قيادات الصف الأول في الثورة: الرئيس محمد علي رجائي، ومعه رئيس الوزراء محمد جواد باهنر، إضافة إلى رئيس شرطة الجمهورية الإسلامية العقيد وحيد دستجردي، كانوا أبرز ضحايا التفجير الجديد.
سنتحدث في هذه المقالة عن هذه الحادثة التي يصادف ذكراها الثانية والأربعين اليوم في الثلاثين من شهر أغسطس /آب من العام 1981 وعن الرئيس الإيراني السابق "محمد علي رجائي" ورئيس وزرائه "محمد جواد باهنر"، اللذين خلفا مثالاً بارزاً من الإلتزام بالمبادئ الأخلاقية في تسلمهما مقاليد الحكم.
مكتب رئيس الوزراء تلتهمه النيران
كان اجتماع مجلس الأمن يُعقد أسبوعياً وكان أعضاؤه الدائمون: رجائي (رئيس الجمهورية)، باهنر (رئيس الوزراء)، كلاهدوز (نائب قائد قوات حرس الثورة الإسلامية)، دستجردي (مدير الشرطة)، ضبّاط الدرك، ثلاثة من كبار ضبّاط القوات النظامية والأمن الداخلي، وأخيراً المجرم الخائن مسعود كشميري.
عقد الاجتماع المذكور في الساعة 2:45 ظهراً، دخل الشهيد باهنر متأخّراً لبضعة دقائق وجلس إلى جانب الشهيد رجائي رفيقه في النضال. كان من المقرّر أن يكون هذا آخر اجتماع لمجلس الأمن يشترك فيه الشهيد "رجائي"، على أن تعقد اجتماعاته اللاحقة برئاسة الشهيد "باهنر". وحتّى في هذا الاجتماع حاول رجائي عدّة مرات إعطاء مكانه لباهنر لمواصلة الاجتماع، إلاّ أنّ باهنر عارض الفكرة وطلب إليه أن يكون هذا آخر اجتماع يشارك فيه.
بدأ اجتماع مجلس الأمن بحديث (مدير الشرطة) الشهيد "دستجردي" الذي قدّم تقريراً عن أوضاع مدينة طهران والأحداث التي وقعت فيها في الأسبوع المنصرم. وكان المجرم كشميري الذي يعمل كأمين للمجلس قد دخل إلى قاعة الاجتماع قبل الجميع وبيده حقيبة سوداء.
لقد كان كشميري مجرماً حقّاً بما في الكلمة من معنى، وعلى الرغم من عمله لما يقارب السنة مع هاتين الشخصيتين ومع معرفته بخصائصهما السامية، إلاّ أنّه جلب في ذلك اليوم تلك “الحقيبة القاتلة” إلى قاعة الاجتماع بكل برود ووضعها بين كرسيي رجائي وباهنر.
في الساعة الثالثة والدقيقة الرابعة عشر كان رجائي يتحدّث بوجه وضّاء عن الشهادة والشهيد، وفجأة انطفأت انوار القاعة في لحظة واحدة ثمّ أضاء القاعة وهج شديد حيث التهبت النيران كلّ الأرجاء. كانت القنبلة التي وضعها المجرم من القنابل التخريبية الحارقة. ولهذا السبب أدّت قوّة عصفها إلى انهيار قسم من سقف القاعة وإلى تناثر كراسي المجتمعين إلى أطراف القاعة، وشبّت النيران بالتزامن مع ذلك في كلّ مكان، فيما سرت النار والدخان سريعاً في الصالة وسائر الغرف الأخرى في ذلك الطابق.
ومع تزايد الدخان والنار في البناية، صعد جميع من فيها إلى الطابق الخامس، وبعد مجيء سيارات الإطفاء أخرجوا من البناية بواسطة الرافعات، فيما بدت البناية وكأنّها أنبوب دخان مثقوب من الجوانب يقذف كتلاً من الدخان الأسود الكثيف إلى الخارج.
وإلى ما بعد 15 دقيقة من الانفجار لم يطّلع أحد على مصير الشهيدين، إلى أن دخل عدد من رجال الإطفاء الذين يرتدون ملابس خاصّة إلى غرفة مجلس الأمن وعثروا هناك على جسدين محترقين بالكامل لا يمكن التعرّف عليهما أصلاً. لفّوا الجسدين المتفحّمين ببطانية وأخذوهما إلى الطب العدلي، فيما كان البحث متواصلاً هناك للعثور على رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. واتّخذ العمل طابعاً أكثر تنظيماً، أغلقت بالكامل جميع الطرق والشوارع المؤدّية إلى بناية مجلس الوزراء، في حين كان جرحى الحادثة يلفّون بالبطانيات وينقلون بسيارات الإسعاف إلى المستشفى القريبة من ذلك المكان في شارع باستور.
30 أب 1981 م كان يوماً مريراً بالنسبة للشعب الإيراني فهو اليوم الذي استشهد فيه الشهيد الرئيس مع رئيس وزرائه إثر انفجار عبوة في مقر عمله، ووالذي كان وراء عملية التفجير مدير مكتب الشهيد " رجائي" مسعود كشميري والذي اعتقد بوفاته في الإنفجار بدايةً، لكنه في الحقيقة كان قد فر ّمن إيران باتجاه بلد أوروبي . وقد أظهرت التحقيقات المكثفة أنه كان جاسوساً وعميلاً لمنظمة "منافقي خلق" الإرهابية، هذه الجماعة التي اغتالت منذ انتصار الثورة الإسلامية حتى اليوم أكثر من 12 ألف مسؤول ومواطن إيراني، وقد حذف الاتحاد الأوروبي عام 2009 وأمريكا عام 2012 إسم هذه المنظمة من لائحة الجماعات الإرهابية .
دور المخابرات الأمريكية والفرنسية في تفجير 8 شهريور / اغسطس
هناك أدلة كثيرة على دور الحكومات الكبرى في تفجير مكتب رئيس الوزراء، كما هو الحال في العديد من الأعمال الإرهابية الأخرى. في الوقت نفسه، نشرت صحيفة "جمهوري إسلامي" خبر "وكالة بارس للأنباء" نقلاً عن "وكالة فرانس برس" عن إعلان منظمة منافقي خلق الإرهابية في بيان في العاصمة البريطانية لندن، مسؤوليتها عن تفجير مكتب رئيس الوزراء. لكن في السنوات التالية ، لم يتم ذكر الخبر كثيراً وزُعم أنه نُشر عن غير قصد بسبب عدم التنسيق مع مكتب المنظمة في لندن وعلى أنه فعل متسرع من وكالة "فرانس برس"، الأمر الذي سرعان ما تم تجاهله ورفضه بسبب تداعياته القانونية و الدولية.
والجدير بالملاحظة قيام وكالة فرانس برس بإعلان أن "عبوة ناسفة انفجرت في مكتب رئيس الجمهورية وقتل على إثره رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الإيراني". وذلك قبل أن تعلنه وكالة الأنباء الإيرانية أو أي مسئول أو مؤسسة إيرانية، وهذا يدل على تورط فرنسا في حادثة الإغتيال.
وكذلك صرحت صحيفة روسية عن دور الحكومة الأمريكية في قصف مكتب رئيس الوزراء بالقول أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تقوم حالياً بتدريب مقاتلين إيرانيين لمحاربة النظام الإيراني، إن محاولة اغتيال الرئيس ورئيس الوزراء قامت بإعدادها المخابرات الأمريكية والرئيس المخلوع أبو الحسن بني صدر".
وفي البيان الرسمي لوزارة الخارجية حول المنظمة، الصادر عام 1994م ، تم التصريح رسمياً على أن المنظمة مسؤولة عن تفجير 8 شهريور/ اغسطس : وفقاً للتقارير ، في 30 أغسطس/ آب ، قصف المجاهدون اجتماعاً لمجلس الأمن القومي الإيراني، والذي أسفر عن اغتيال الرئيس الجديد "محمد علي رجائي" ورئيس وزرائه الجديد "محمد جواد باهنر". و أعلن المنافقون مسؤوليتهم عن بعض الأعمال الإرهابية بشكلٍ مستقل، فقط كانوا يظنون بأن نتيجة هذه التفجيرات ستُعزز مكانتهم في النظام، وهم كانوا يملكون الإرادة والقدرة على تنفيذ نواياهم العنيفة.
هذا وقد اعترف "مسعود رجوي" رئيس منظمة خلق الإرهابية ، في عام 1999م، في لقاء مع اللواء طاهر جليل الحبوش، رئيس المخابرات العراقية ، معترفاً بالعملية الإرهابية: "كان البيت الأبيض وقصر الإليزيه على علم بالحادثة، كان يعرفون بمن ولماذا قام بعمليات ضد رئيس الجمهورية وضد رئيس وزراء إيران كانوا على علم ويعرفون جيداً، لكنهم لم يسمونا إرهابيين".
الشهيد رجائي الرئيس المُعلم
ولد الشهيد محمد علي رجائي في مدينة قزوين وكان والده صاحب دكان في سوق قزوين الذي فقده وكان له من العمر 4 سنوات، ولما بلغ من العمر 13 عامًا أنهى الصف السادس في قزوين وغادر مع أخيه إلى العاصمة طهران، ولأجل الحب الكبير للتعلم الشهيد محمد علي ينجح في كسب شهادة الماجستير في اختصاص الإحصاء، لم يكن أي تلميذ من تلامذته أن يصوت يوماً ما أكثر من 12 مليون شخص لمعلمه ليصبح رئيساً للجمهورية. وفي عام 1951، تطوع رجائي للخدمة في القوة الجوية. وأكمل ثلاثة أشهر من الدورة التدريبية لدرجة الرقيب وكان يرتاد مسجد "هدايت" الذي كان يصلي فيه آية الله السيد محمود الطالقاني طاب ثراه واصبح من المقربين منه.
وبعد فترة اعتقلته جلاوزة الشاه المقبور وسجنته فتعرف هناك على المهندس مهدي بازركان الذي كان من الاساتذة المؤمنين في جامعة طهران التي درس فيها بعد نحاجه في الثانوية وتم اعتقاله هذه المرة لانتمائه لحركة الحرية التي دعا لها المهندس بازركان.
وتعرف في المعتقل على الشخصيات الاسلامية المعروفة مثل الشهيد آية الله السيد محمد حسيني بهشتي وقائد الثورة الاسلامية سماحة آية "الله الخامنئي" (حفظه الله) وشخصيات أخرى، ولمّا انتصرت الثورة الإسلامية دعاه السيد بهشتي الى ترشيح نفسه لانتخابات مجلس الشورى فانتخبه أهالي طهران لمعرفته بجهاده المرير ضد الشاه المقبور.
وانتخب مجلس الشورى الشهيد رئيساً للوزراء في عهد "أبو الحسن بني صدر" الذي اصبح رئيساً للجمهورية فنشب الخلاف بينهما حيث كان الاخير ينتهج الليبرالية والشهيد يدعو لنهج الفكر الاسلامي. وبعد هذا الصراع صوت البرلمان على عدم كفاءة "بني صدر" الذي هرب مع زعيم زمرة المنافقين "مسعود رجوي" إلى فرنسا. وبعد ذلك اختاره الشعب الإيراني رئيساً للجمهورية في انتخابات منقطة النظير وذلك بعد حصده أكثر من 13 مليون صوت. وكان انتخابه مبعث سرور الامام الخميني (قدس) الذي وصفه بأنه المعلم في الأخلاق في تعامله. وهكذا أصبح ثاني رئيس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولن تنمحي من ذاكرة الشعب الإيراني حلاوة ذكرى مراسم أدائه لليمين الدستورية بحضور الإمام في عام 1981م حين جثا على ركبتيه أمام الإمام الخميني (قدس) أثناء تسلّمه لحكم رئاسة الجمهورية.
كان الشهيد رجائي خلال الفترة القصيرة التي استمرت 29 يوماً من تسلّمه الجمهورية، ورشَّح خلالها الشهيد الدكتور باهنر إلى مجلس الشورى، وبعد اقرار مجلس الشورى الإسلامي لذلك الترشيح، اتخذه كرئيس للوزراء، عازماً من خلال تشكيله لحقيبة وزارية ثورية وشابّة على حل المشاكل الناجمة عن حالة الحرب، والأزمات الاقتصادية، وقضية العمل، وقضية التضخّم، وهي مشاكل بقيت أكثرها عالقة بسبب انقضاء وقت المسؤولين في الاختلاف مع بني صدر. كان يشارك باندفاع وشوق وحماس لا يوصف في أكثر الاجتماعات واللجان التي لا ضرورة لمشاركته فيها لكي يؤدي دوره في حل المشاكل واتخاذ القرارات المدبرة والتعجيل في تنفيذها.
الشهيد باهنر ...نموذج الإدارة الإسلامية
كان له دور فاعل في تأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي إلى جانب الشهيد المظلوم آية الله "بهشتي" والسيد الأردبيلي والشيخ رفسنجاني، وكان لحضوره السياسي وخطه الفكري الإسهام المهم في إرساء أطروحة خط الإمام الخميني (قدس) إزاء الخطوط الأخرى التي دخلت في تقاطع مع خط الثورة في نهجيها الآيديولوجي والسياسي. وبعد استشهاد الأمين الأول الدكتور بهشتي انتخبت اللجنة المركزية في الحزب"محمد جواد باهنر" أميناً عاماً للحزب الجمهوري. كلّفه الإمام الخميني (قدس) بعد انتصار الثورة مباشرة أن يباشر في إعداد مجموعة من الأساتذة والمعلمين استعداداً لفتح المدارس في عصر الثورة، وذلك بعد سلسلة الاضرابات التي كانت قد شلت النشاط التعليمي وقادت إلى تعطيل المدارس، فيما قادت إليه أحداث الثورة من تعطيل بقية المرافق. يقول الشهيد باهنر، إنه أمسى قلقاً للمهمة الجديدة التي أناطها به الإمام، فاتصل على عجل ببعض الأساتذة من المعلمين والتربويين وشكلوا لجنة عليا، نهضت بالإعداد لبرنامج أوّلي شمل ما يقارب الألف من المعلمين والمعلمات الذين أصبحوا على أهبة الاستعداد في يوم افتتاح المدارس، وكان للشهيد "محمد علي رجائي" دورٌ مميز في التخطيط لهذا البرنامج التربوي وتنفيذه.
كما كان الشهيد باهنر الذي كان في عمر الـ48 عند استشهاده، قد تولى العديد من المسؤوليات بعد انتصار الثورة الاسلامية، من ضمنها نائب في مجلس الثورة الاسلامية ونائب عن أهالي كرمان في مجلس خبراء القيادة ونائب عن اهالي طهران في مجلس الشورى الإسلامي، ووزير التربية والتعليم في حكومة الشهيد رجائي،وعيّنه الشهيد رجائي بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، رئيساً للوزراء.
نختم حديثنا عن الشهيدين بما قاله السيد القائد (حفظه الله) عنهما. يقول السيد القائد في 24 اغسطس / آب 2016:" لعنة الله على الأيدي المنافقة والمجرمة التي أغرقت هذين العزيزين بدمائهما، للأسف فإن بعض السياسات الغربية تعمل على تبرئة هؤلاء الأشقياء، وأن يصوروهم بنحو من الأنحاء على أنهم في موقف المظلوم ويخلقوا لهم أجواء من المظلومية، وهم طبعاً سيعجزون عن ذلك".