غرب أفريقيا.. معادلة النظام العالمي والاقتصادي
محمود عبدالحكيم
كاتب ومحلل سياسي
لم يزل الضعف السياسي والانقسامات القبلية والعرقية حاضرين في أغلب أفريقيا، مع هياكل دول لم تشكّل نموذجاً كاملاً للدولة الحديثة في ظل الوضع الاقتصادي لجنوب العالم إجمالاً، وأفريقيا على رأسه. هياكل دول خاضعة لعدم تكافؤ في العلاقة بالنظام العالمي وبالسوق الذي تديره القوى الأكبر فيه، ما يكمل الدائرة نفسها: دول هشّة، أغلبها بالكاد يستوفي شروط قيام دولة كاملة مستقرّة، تنزح قيمة اقتصادية عالية.
المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا
على ذلك، تُعد تجربة الاتحاد الاقتصادي النقدي لغرب أفريقيا، الآلية العملية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) ذات الخمس عشرة دولة عضواً، ومقرّها الرئيسي في نيجيريا، فريدة بصفتها تجربة ناضجة تقنياً لتكامل إقليمي اقتصادي، نسبي، لدول الجنوب، تشمل إجراءات إعفاء جمركي وسوقاً مشتركة ومصرفاً للاستثمار والتنمية، وعملة مشتركة (فرنك غرب أفريقيا) يصدرها المصرف المركزي لدول غرب أفريقيا، أُعلن فكّ ارتباطها - نسبياً - بالهيمنة الفرنسية المباشرة بتوقيع اتفاق عام 2019، يوقِف تجميع نصف احتياطات العملات المركزي للدول الثماني المستخدِمة في الحساب التشغيلي للخزانة الفرنسية، ويسحب ممثّلو فرنسا من مؤسسات إدارة منطقة الاتحاد النقدي، بحلول عام 2027، ويعطي للعملة اسماً جديداً. لقد أقرّ البرلمان الفرنسي الاتفاق عام 2020، في خطوة فارقة ومتّصلة بعمل منظومة اليورو والبنك المركزي الأوروبي ونفوذهما، وإن لم تمثل خطراً ما دامت مفاعيل وقوانين سعر صرف العملة أمام اليورو في مكان آخر، متّصل بالسياسة والجغرافيا، وقوانين التجارة الرسمية، للنظام العالمي والقانون الدولي والأمم المتحدة، والواقعية، أي الأكثر قابلية للتطبيق العملي، ما يحدده دائماً النفوذ الملموس للقوى والفاعلين. على أي حال، أوحى المشهد بنجاح لم تحققه تجمّعات اقتصادية أفريقية أخرى، مثل كوميسا، والمجموعة الاقتصادية لوسط أفريقيا (التي تستخدم فرنكاً آخر)، لكنه اصطدم مرات عديدة بعدم استقرار الحكم وغياب شمول السلطة في تلك الدول، فعلّقت "إيكواس" في السنوات الماضية عضوية مالي وغينيا وبوركينا فاسو بسبب الانقلابات العسكرية.
فرنسا حلقة أوروبية أضعف
مع تصاعد الاضطراب في أسواق الطاقة، وتعسر إيجاد بدائل ناجزة سريعة للغاز الروسي في أوروبا، تكتسب المنطقة أهمية أكبر وعلى قمّتها النيجر، مصدر ربع واردات الاتحاد الأوروبي وثلث واردات فرنسا من اليورانيوم، الذي تعاني الأخيرة اعتمادية مطلقة عليه لتوليد الكهرباء، أي عصب الصناعة وأهمّ الخدمات. وصاحب تباطؤ اقتصادي ذلك الاضطراب وأزمة سلاسل الإمداد، مع احتجاجات اجتماعية واسعة باتت تمثّل أزمة سياسية أطلقها تخفيض الإنفاق، مع عجز في الميزان التجاري يقارب 10 مليارات دولار، ونسبة لافتة للدَين من الناتج الإجمالي المحلي، تقارب 100%. سياق كامل يجلّيه تراجع الفاعلية وتأثير المشروع السياسي (بموازاة صدامات محدودة) في "الأطراف"، من لبنان إلى الجزائر إلى غرب أفريقيا، إلى الجزر النائية التي يطالب سكّانها بالتمثيل السياسي وتحسين الخدمات، الضعيفة في مدن المركز بالأساس، ويطرح تحدياً استراتيجياً جديداً يشغل صانع القرار الفرنسي، الذي يستحيل أن يكون قد استبعد هذا الجزء منه في أفريقيا.
لم تكد فرنسا تفرغ من تشكيل صيغة تفاهم مع السلطة الجديدة في مالي، بعد انقلاب 2020 الذي تفاهَم مع الحركة السلفية وثبّت خطوط مواجهة مع التمردَين التكفيري والطوارقي شمال البلاد، حتى وقع انقلاب النيجر واحتُجزت رموز الحكم المسؤولة عن قطاعيّ الاقتصاد والطاقة، وتعكس تصريحات قياداته نزعة معادية للهيمنة، يصعب أن تكون حديثة النشأة أو غير مسبوقة، في الإقليم الذي شهد تاريخ تحرره الوطني مواجهات كبيرة مع فرنسا، ويتصاعد تعداد سكّان بعض دوله بمعدّل أعلى بالمطلق عالمياً، بموازاة واقع ضعف السلطة المركزية فيها وضيق خيار الهجرة إلى أوروبا، بلا ثمار كافية لأغلب السكان يتيحها الاندماج الاقتصادي الإقليمي القائم بين دولها، رغم حجمه وعمره الطويل.
لكن، يبدو أن عاملاً فارقاً شجّع انتقال تلك النزعة للفاعلية، صعود صفّ دولي كامل معاد للهيمنة الغربية، تقوده الصين بصفة القطب الاقتصادي، ذي الوزن السياسي المعتبر، وروسيا بصفتها قوة دولية متزايدة الحركية في محيطها وخارجه، كلتاهما دولة صاعدة و"غير راضية" عن النظام العالمي، طبقاً لنظرية تحوّل القوة، من دون طرح نموذج بديل جاهز بالضرورة. من هنا، جاء تصاعد النفوذ الروسي تدريجياً، في النيجر ومالي، وحزام عرضي يتجه إلى الشرق حتى جمهورية وسط أفريقيا، فرصة يسهل تلقّفها لنيل دعم استراتيجي، ولوجيستي وعيني، بجوار حضور صيني يحمل سمة قرينه الروسي (مع اختلاف الأدوات)، أي الارتكاز على مشروعات اقتصادية، معلنة أو غير معلنة، ونشاط دبلوماسي وعمل من الأعلى مع سلطة الأمر الواقع، الأكثر احتكاراً للسلاح والأدوات التنظيمية ــ في السياق الأفريقي.
خيارات التشظّي والتكتّل
هيكل هشّ قد يصعب وصفه بـ"دولة"، وهنا تكمن فرصة تشكيل هيكل أقوى من حيث حكم الموارد وتوجيهها، وتقليل معدّل الاستغلال الفرنسي الثقيل، ومن ثم إمكانات مالية وحرية حركة قد يكفلها الهامش المتّسع الجديد، الذي انتزعته الصين وروسيا من داخل النظام العالمي، لا خارجه، وأزاح مكاسب أوروبية، وفرنسية. ما انعكس مثلًا في ثنائية احتكاك وتوافق أوروبية وفرنسية مع أميركا، بشأن معايير العلاقات الاقتصادية ونقل التكنولوجيا مع الصين، وفي تصريحات سابقة للرئيس ماكرون، قبل العملية الروسية في أوكرانيا، نادت بتشكيل جيش أوروبي للحماية، وأخرى قاربَت صعود الصين بصفته أمراً واقعاً، والعلاقات مع أميركا بصفتها عرضة لتغيرات قد تحتّمها المصالح الفرنسية.
يبقى السؤال الجوهري، في معادلة غرب أفريقيا والنيجر مع فرنسا، وثيق الصلة بسِمات النخبة العسكرية التي تحكم الآن دولًا ثلاثاً بالغة الأهمية في الإقليم، وحدود سياساتها، وقد جمع القيادات الوسيطة المنقلبة الخروج عن الخطاب الأيديولوجي، أو تلك الصبغة للسياسات، حتى الآن، عدا الموقف الواضح حتى الآن من الليبرالية الاقتصادية الواقعة على بلادهم، وحداثة السنّ، التي تعكس تقادم النخبة السابقة وهشاشة البناء التنظيمي لجهاز الدولة والجيش، عاملٌ قد يسهل تعديله بإجراءات استثنائية ومخصصات مالية عاجلة وتطوير التسلّح والعتاد، واعتماداً على الكتلة السكّانية.
ما هو أوضح من ذلك الآن، تكتّل إقليمي يتشكّل بصفته تشظّياً لتكتّل أكبر، وتفتح له خارطة العلاقات الإقليمية والدولية باب اجتياز تلك المرحلة، نحو تثبيت الوضع ثم صوغ نمط علاقات جديد، في وجود طرف مثل الجزائر الرافضة جذرياً للتدخل العسكري الخارجي رغم تمسّكها، من باب الروية وتعطيل تحرّك أميركي محتمل على الأغلب، بشرعية الرئيس المعزول، ودول ستغلّب النزعة العملية بعد أن باتت التحوّلات واقعاً، يُعد ذاته نتيجة تراكم امتدّ لسنوات أمام الجميع.