في ظل التحديات الداخلية و الخارجية لـ (بي بي سي)
القوة الناعمة لبريطانيا تتجه نحو الأفول
الوفاق / ذكرت مجلة "فورن إفيرز" الأميركية في تقريرها الذي استعرضت فيه تاريخ نشاط بي بي سي كأداة لقوة النفوذ الناعم لبريطانيا و التأثير على الشعوب في العالم، علامات انحدار هذه الوكالة الإعلامية وكذلك انعكاسات انسحابها من الساحة العالمية وجاء في التقرير: بي سي هي وكالة إعلامية بريطانية تقدم خدمات إخبارية وترفيهية للجمهور الداخلي والخارجي. تُعرف خدمة البث العالمي لبي بي سي بأنها أداة للقوة الناعمة لبريطانيا، أي القدرة على التأثير على الآخرين من خلال ترويج الثقافة والقيم البريطانية. تُبث هذه الخدمة بأكثر من 40 لغة ولديها ما يقرب من 365 مليون مستخدم أسبوعياً. تُمول هذه الوكالة الإعلامية أساساً من تراخيص التلفزيون التي يجب على كل مستخدم في بريطانيا دفعها قانونياً. تزعم بي بي سي أنها مستقلة عن التدخل الحكومي وأنها تلتزم بالحقائق والحيادية في تغطية الأخبار، و أنها مسؤولة أمام البرلمان و ليس أمام الحكومة والوزراء،و تمويل هذه الوسيلة الإعلامية يأتي أساسًا من تراخيص التلفزيون التي يجب على كل مستمع لبي بي سي في بريطانيا دفعها قانونيًا.
بي بي سي أداة بريطانيا في الخارج
كانت العلاقات بين بي بي سي وحكومة بريطانيا دائمًا معقدة وغامضة، حيث تعمل في الوقت نفسه ككيان مستقل، ولكن غالبًا ما تتعاون مع بعضها البعض. في مجال البث الدولي، كان هناك عادة استشارات خلفية بين بي بي سي والحكومة. وكانت تستشیر وزارۃ الخارجية البریطانية في اختیار اللغات و لمجتمعات المستهدفة. و كانت هذه الوسيلة الإعلامية تُستخدَم كوسيلة لإذاعة رسائل سیاسية وثقافية لبريطانيا فی المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية، مثل الشرق الأوسط وأوروپا وروسیا و يتم تمويل خدمة اللغات الأجنبية مباشرة من قبل الحكومة. وكانت تُتابَع من قِبَل الملایین من المستمعین فی دول معادية أو حليفة لبريطانيا، مثل المانيا النازية والاتحاد السوفیتى. و كانت سياسة هذه الوسيلة تعمل على تحقیق مصالح السیاسة الخارجية البریطانية، فعلى سبيل المثال، استعانت وزارة الخارجية البريطانية ببي بي سي لبث الإذاعة العربية للجمهور الناطق بالعربية في منطقة الشرق الأوسط في أوائل عام 1938 لمواجهة أخبار إيطاليا باللغة العربية. في نفس العام، بدأت هذه الوكالة الإعلامية بث اللغات الأوروبية بناءً على استشارة من وزارة الخارجية البريطانية ردًا على إذاعة النازية وقتها.
بداية عصر الأفول
بدأت لاحقا الاختلافات مع بي بي سي في بريطانيا بالظهور، و خاصة من قبل المحافظين الذين حكموا البلاد لأكثر من عقد، وأدت هذه الخلافات إلى فرض قيود كبيرة على تمويل برامج البث العام لهذه الوكالة الإعلامية. نظرًا لأن بي بي سي حاليًا تنفق معظم مواردها على البث العالمي،و أثرت عمليات تخفيض الميزانية الإجمالية لبي بي سي سلبًا على البث العالمي،و فشلت بي بي سي في الحفاظ على نفسها ضد موجة التصاعد في المعارضة الداخلية ضدها. و في العقود الأخيرة، سعت شركات وسائط خاصة إلى تقويض موقف البث الحكومي في بريطانيا. يعتقد بعض شخصيات الجناح اليميني السياسي أن بي بي سي قيدت المجال أمام الشركات الخاصة في صناعة وسائط بريطانيا وتبدي سياسات متحيزة لليسار في برامجها المحلية. هذه الهجمات تصاعدت من قبل طيف متنوع من الجماعات السياسية والتجارية منذ عام 2010، وكانوا يسعون إلى إضعاف بي بي سي أو إزالتها تمامًا، ويبدو أنهم لا يولون أهمية كبيرة لتأثير هذه الخطوة على البث العالمي ونفوذ بريطانيا الرقيق. في ذلك العام، فرضت حكومة التحالف الحاكم، المكونة من المحافظين والليبراليين الديمقراطيين وبقيادة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق، تسوية مالية جديدة على بي بي سي.
بى بى سى تواجه ضغوطات مالية وسیاسية فی العقود الأخیرة، و شهدت خدمة البث العالمي لبى بى سى انخفاضً في نشاطاتها ومیزانیتها، نتیجة للتغیرات السیاسیة والتكنولوجیة فی العالم. فی عام 2010، ألغت الحكومة البریطانیة المساعدة المالیة التي كانت تدعم هذه الخدمة منذ الحرب العالمیة الثانیة، وأجبرت بى بى سى على تحمل التكالیف بنفسھا. فی عام 2022، أعلنت بى بى سى عن خفض 400 وظیفة وإنھاء خدمات البث الإذاعي باللغات الآسيوية. فی عام 2023، تم إغلاق البث الإذاعي العربي لبى بى سى بعد 85 عامًا من العمل. هذه التقلصات تُظهر تراجع نفوذ بريطانيا الناعم في الساحة الدولية، وتُعرض خدمة البث العالمي لبي بي سي للخطر. فهذه الوسيلة الإعلامية تُواجه منافسة شديدة من وسائط إعلامية أخرى مدعومة من دول كبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. كما تُواجه هذه الخدمة انتقادات وهجمات من جانب بعض القوى السياسية والتجارية في بريطانيا، التي ترى أن بي بي سي تُشكل عائقًا أمام مصالحها أو تُظهر انحيازًا لليسار في برامجها المحلية. يبدو أن هؤلاء المسؤولون لم يعودوا يعطوا أهمية خدمة البث العالمي لبي بي سي كأداة للتأثير والتواصل مع العالم، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجهها بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.