احياء ذكرى رحيله في خوزستان
الشيخ عيسى الطرفي.. نموذج العالِم القائم لله
خوزستان، محافظة لطالما عرفت ببوابة دخول التشیع إلی إیران، وسجلت ملاحم مشرّفة في شتی العصور وعلی مدی الدهور؛ من میادین الدفاع والحروب حتی سوح الجهاد في مختلف مجالات العلوم. تاریخ خوزستان العریق یروي في طیاته حیاة المئات من المفاخر والمشاهیر والشخصیات؛ منهم الشعراء والأدباء، وكوكبة من الأبطال وشهداء المقاومة، ومنهم مفاخر العلم والإجتهاد. شخصیات شامخة كرّست حیاتها المباركة لخدمة الإسلام، وضحّت بنفسها من أجل نشر علم أهل البیت علیهم السلام في شتی بقاع العالم. سماحة آية الله العلامة الشيخ عيسى الطرفي، إحدی هذه الشخصیات التي تعد من مفاخر محافظة خوزستان واعلامها، بحیث نال مكانة رفيعة في العلم حتى شهد له العلماء وكبار عصره بمكانته العلمية البارزة. وعلی أعتاب الذكری السنویة لرحیل آية الله العلامة الشيخ عيسى الطرفي، نسلط الضوء علی أهم المحطات في حیاة هذا العالم الورع والمناضل الدؤوب. نجل الشیخ عیسی الطرفي؛ یروي لنا جوانب من سیرة والده:
نبذة عن حياة العلامة الطرفي
والدنا «الشیخ عیسی الطرفي» كان أحد العلماء البارزین الذین قضوا حیاتهم في دراسة العلم ونالوا من المتاعب والمصاعب التي تمرّ علی طلاب العلم.
هذا العالم الفاضل المتقي كان مُتزّنا وملتزما بالتقوی وكان لا یتجه في خُطاه ومسیرته إلی المسائل المادیة والمادیات، فلذا كان زاهداً متقیاً عابداً بعیداً عن القضایا المادیّة.
من أهم صفاته وسماته هي أنه كان خادماً للناس،كان یقوم بواجباتهم الإجتماعیة، لحل مشاكلهم وقضایاهم وإختلافاتهم.
درس العلم في عنفوان شبابه في حوزة النجف العلمیّة، التي تعد عش علي ابن ابي طالب(ع) وكانت آنذاك مركزا لعلوم أهل البیت (علیهم السلام).
والدنا من مدینة سوسنغرد ذهب بقصد الزیارة الی مدینة النجف الأشرف، ولكن عندما رأی الحلقات الدرسیة آنذاك، عشق تلك الحلقات وأحب أن یكون أحد أفراد هذه الحلقات، فرغم أنه ذهب مع أخواله الی النجف، وكان یتیما حینها وقد أخذ الإذن من والدته، فإستأذن من أخواله للبقاء في النجف الأشرف، فتم بقاؤه بالنجف الأشرف لمدة 20 سنة.
عودته الى آبادان
ثم رجع الی إیران فاستقبله الناس من كل حدب وصوب ولكن أهالي مدینة آبادان كأنما كتبوا كتاباً ووقعوا فیه، وطلبوا من علماء النجف أن یبقی الشیخ في مدینة آبادان، فلبی دعوتهم وبقی في مدینة آبادان.
فلما بقي هناك بنى مسجداً في تلك المنطقة، فأقام الصلاة والتبليغ في هذا المسجد .كان ملتزماً بصلاة الجماعة وبإقامة الصلاة في المسجد حتی في حین السفر، یعتني الی المساجد ویصلي في المسجد. وكم من مسجد أسسه وكان سبباً لتأسیسه في مناطق كثیرة من خوزستان؛ مثل بناء 4 مساجد في مدینة آبادان، وفي مدینة الحمیدیة مسجد كبیر وفي مدینة سوسنغرد ایضاً مسجد واحد.
قبل أن تبدأ الثورة الإسلامیة قام بزیارة الإمام الخمیني (رض)، وكان رحمة الله علیه في منطقة (یخجال قاضي) بمدینة قم المقدسة، وكنت معه آنذاك وكان عمري حینها 13سنة، فزرنا الإمام الخمیني(رض) في سنة 1341 الهجریة الشمسیة، وأنا أذكر هذه الكلمة من الإمام الخمیني (رض)، حیث قال "المساجد خنادق"، خنادقكم المساجد، إرجعوا وإعملوا وثوروا وآمروا بالمعروف وإنهوا عن المنكر من طریق مساجدكم.
من جملة نشاطات الشیخ رضوان الله تعالی علیه تأسیس اللجنة العشائریة الثوریة لإدارة الأمور بعد الخلاء الذي وجد بعد ذهاب الحكومة الشاهنشاهیة، وكانت هذه اللجنة ملجأ للمستضعفین ، تقضي أمورهم وتسدّ حاجاتهم وتساعد الفقراء والمحتاجین.
كان یقیم المناسبات الأدبیة ویحضر المحافل الشعریة، وعندما كان الشعراء يشتركون في تلك المحافل، كان هو یشوقهم، وفي بعض الأحیان عندما یسمع شعراً قویاً، ومن أجل أن یشوق الشاعر، كان یقوم من مكانه وینادي بأعلی صوته: أحسنت أحسنت، حتی یتشوّق الشاعر.
ايام الحرب المفروضة
عندما بدأت الحرب المفروضة، لبس الشیخ الوالد (رحمة الله علیه) درعه ولباس الحرب ورفع بندقیته وذهب الی الخطوط الأمامیة من جبهات الحرب.
كان یتحمّل حرارة منطقة آبادان في الصیف وبرودتها في الشتاء وكان یتحمل عطش وجوع آبادان في أیام الحصار، وذلك دلیل علی إخلاصه وشجاعته وبطولته وإعتقاده الراسخ بهذه الثورة الإسلامیة.
ومن جملة نشاطاته المهمة وهي من مفاخر الجمهوریة الإسلامیة في جبهات القتال؛ هي إقامة صلاة الجمعة في مدینة آبادان، والتي لم تنقطع حتی لإسبوع واحد.
فإستمرت الحرب وكان الوالد یحارب بكل ما یملك من قوة وكانت له مواقف مشرفة وقویة في أیام الحرب.
كان الشیخ ملجأ لاستشارة الشخصیات الكبار كشخصیة الشهید بهشتي والشیخ رفسنجاني، وحتی في أمور الحرب كان الشهید صیاد شیرازي یلتقي مع الشیخ عیسی الطرفي، ویأخذ بآرائه ونظریات الشیخ وفي قضایا الثورة طلب منه الإمام الخمیني (رض) أن یقیم الصلاة في مدینة سوسنغرد، فلبّی نداء الإمام وجاء الی مدینة سوسنغرد وأقام صلاة الجمعة. ولكنه مع كل الأسف علی أثر الوعكات الصحیة، لم یكمن له الاستمرار، ففي مراحل متعددة، أصیب بعدة جلطات، نقل علی إثرها إلی المستشفی، ولم یفارقه المرض، حتی قضی نحبه، في سنة 1361 للهجرة الشمسیة وتوفي رحمة الله علیه.
قالوا عنه
آیة الله السید محمد علي الموسوي الجزائري/ مندوب الولي الفقیه السابق في خوزستان وزعیم الحوزات العلمیة بالمحافظة:
في الحقیقة أقول لكم بكل أسف وحزن أبدأ بالكلام عن صدیقي المكرّم سماحة آیة الله الشیخ عیسی الطرفي قدس الله نفسه الزكیّة، لأني لا أستطیع نسیان هذا الصدیق العالم المجاهد الفاضل الثوري.
تتلمذ علی یدیه أفضل العلماء؛ مثل الشیخ علي الكرمي رضوان الله تعالی علیه، وكان من كبار العلماء والعرفاء، یعني بما أن الشیخ علي الكرمي كان عالماً وفي نفس الوقت كان عارفا أیضاً، مع ذلك هو كان یقول أنا درست عند الشیخ عیسی الطرفي.
آیة الله الشیخ عیسی الطرفي كان من المبلغین للإمام الخمیني (رض) بین أهالي عرب آبادان وخرمشهر، ومن السابقین الی تعریف شخصیة الإمام الخمیني (رض) هناك، بحیث توجّه الناس الی الإمام وقلّده، بتعریفٍ من الشیخ عیسی الطرفي.
شكل آیة الله الشیخ عیسی الطرفي لجنة العشائر في مدینة آبادان وكان یستفید من هذه اللجنة، كل الأقوام والعشائر المتواجدة هناك.
آیة الله الشیخ محسن الحیدري ممثل أهالي خوزستان في مجلس خبراء القیادة:
كان رجلاٌ مخلصاٌ متدیناً، صاحب أخلاق كریمة، في نفس الوقت الذي كان یحمل متانة من ناحیة الشخصیة،كان یحمل أیضاً خلق سامیّة ومتواضعة، ویأنس الیه القریب والبعید.
المرحوم الشیخ عیسی الطرفي كان عالماً حقاً وفاضلا ومتقنا للعلوم الدینیة والأدبیّة، درس المقدمات عند اساتذته في خوزستان ثم هاجر إلی النجف الأشرف.
حضر عند مشایخ النجف الأشرف وعلمائها، إلی أن وصل درجة الإجتهاد وكرّس عمره في سبیل الدرس والتحقیق والبحث والتدریس، حینما كان في النجف الاشرف وحینما رجع، وكان یحفظ بعض النصوص الفقهیة، مثل أرجوزة السید مهدي بحر العلوم.
كان المرحوم الشیخ عیسی الطرفي من أوائل العلماء البارزین والمجاهدین الذین لبّوا نداء الإمام الخمیمني (رض)، وواكبوه في حركته الجهادیّة، وكانت تصدر من الشیخ عیسی الطرفي بیانات؛ قبل انتصار الثورة الإسلامیة، وكان یقوم بتوجیه أبناء العشائر العربیة خاصة نحو الثورة، وكان بیته ملیئاً بالثوار والمجاهدین.
أصبح ذا موقع إجتماعي مرموق في كل مناطق محافظة خوزستان خاصةً بین عشائر آبادان وأیضاً مناطق وعشائر دشت ازادكان والهویزة ومدینة بستان وأهواز ومدینة الحمیدیة أیضاً والمناطق الأخری، وتقبلوه كعالم دیني وفاضل، وإنضم الى هذه الجهات السیاسیة والجهادیة.
حینما بدأت الحرب المفروضة كان هذا الرجل العظیم موضع ثقة لقادة الجیش والحرس من جهة وموقع ثقة لأبناء العشائر العربیة من جهة أخری، وكان یدلي ببیاناته الجهادیة والثوریة من خلال الإذاعة والتلفزیون.
كانت منطقة آبادان مهددة بالخطر جداً، ولكن هو لازال بكل طمئنینة في بیته، ویقیم الصلاة، ویتردد في مابین المجامیع العشائرية، المجامیع المقاتلة وبكل رحابة صدر. وكان یواكب المجاهدین والمقاتلین في خنادقهم ویذهب الیهم، لیزورهم ویشجهم علی القتال.
نظراً لمعروفیته مابین العلماء وعند الإمام خمیني (رض) وبواسطة جهود ومتابعات سماحة ایة الله السید الموسوي الجزایري الذي كان آنذاك إمام جمعة أهواز وممثل الإمام في خوزستان، تم تعیینه من قبل الإمام الخمیني(رض) إمام جمعة لمدینة سوسنعرد.
آیة الله الشیخ عباس الكعبي ممثل أهالي خوزستان في مجلس خبراء القیادة:
له فعالیات نشطة في بناء المساجد والحسینیات وتربیة الكوادر المؤمنة الصالحة وكان له دور بارز في تربیة الجیل المؤمن الصالح.
حمل مشعل الثورة الإسلامیة لأهالي خوزستان وكان فاعلاً ونشطاً في نشر فكر وخط الإمام الخمیني(رض) ومدرسة الإمام الراحل،كما كان له مساهمة بارزة في اذاعة آبادان في شدّ الجمهور للثورة الإسلامیة، من خلال خطاباته وأشعاره ومن خلال تواجده بین أبناء العشائرو القبائل العربیة في المساجد والحسینیات والمضایف والدواوین، وكان یحثهم علی الوحدة والوئام والبصیرة ومواجهة الفتن والمؤامرات التي تحاك من قبل الأعداء آنذاك.
عندما بدأت الحرب المفروضة من قبل النظام الصدامي، كان الشیخ عیسی الطرفي رضوان الله تعالی علیه، من السباقیّن في میادین الجهاد، حیث یحضر الجبهات إلی جنب المدافعین الكبار، وكان المجاهدون ینشدون الیه عندما یرونه بشیبته وبالباس العسكري یتواجد في المتاریس وفي الخنادق، وفي الواقع كان حاله كحال المجاهدین العادیین في الحرب.
نستطیع أن نقول إن الشیخ عیسی الطرفي نموذجا للعالِم القائم لله، الذي سعی لإحیاء أمر الأمة والذي جاهد وناضل من أجل حاكمیة الإسلام ضد الطاغوت، وضد النظام الصدامي وكذلك ضد أمریكا والصهائیة، وكان فاعلاً في میدان ربط الأمة بالإمامة الإلهیة، وفي ربط الأمة بالثورة الإسلامیة والجمهوریة الاسلامیة والدفاع عن هذا الخط المبارك.
حقیقة الأمر أن طلبة الحوزات العلمیة والفضلاء والأساتید خاصة في محافظة خوزستان، ینبغي أن یتعرفوا علی شخصیة هذا العالم، وأن یقتدوا ویتأسوا به، وكذلك یُعرّفوا هذه الرموز والشخصیات كأمثال الشیخ عیسی الطرفي والمرحوم آیة الله الشیخ محمد الكرمي والمرحوم المجاهد الشیخ هادي الكرمي، الی الأجیال المعاصرة والشباب، حتی یعرفوا هذه الشخصیات الرسالیة التي لها حق علی مجتمعنا.
أبرز المحطات في حیاته
ولد عام 1293 هــ.ش في قرية ابو حمّيظة التابعة لمدینة سوسنغرد بمحافظة خوزستان، وترعرع بها، ثم انتقل الى النجف الاشرف ومنها الى مدينة آبادان فسكنها بطلب من اهلها.
عرفت عائلة العلامة الطرفي بالعلم والادب والتديّن، ونشأ وترعرع في كنف عائلة متدینة، وعندما بلغ الــ6 من عمره بدأ والده بتعلیمه قراءة القرآن الكريم وبسبب استعداده الذاتي تلقی القرآن الكریم بسرعة فائقة.
قرر العلامة الشیخ عیسی الطرفي ان يهاجر الى النجف الاشرف، لینال الحظ الوافر من علمها. فذهب العلامة المجاهد إلى النجف وكان له من العمر حینئذ عشرون عاما؛ وأقام في حلقاتها الدرسية نحو عشرين سنة.
تتلمذ ودرس العلامة الشیخ عیسی الطرفي عند كبار العلماء ومن أشهرهم؛ آية الله العظمى الشیخ محمدحسین كاشف الغطاء، آية الله العظمى الشيخ اللنكراني، المرجع الديني آية الله العظمى السيد الخوئي وآية الله العظمى السيد الحكيم.
من أبرز مؤلفات العلامة الشیخ عیسی الطرفي؛ هي: «مجموعة مذكّرات»، «الخطابات والنداءات» (جمعها السيد محمد محمود الغريفي في كتاب سماه صوت الثورة)، كما له منظومة في النحو.
توفي آية الله الشيخ عيسى الطرفي في شهر مرداد عام 1361 هــ.ش، عن عمر يناهز 68 عاماً بسبب مشكلة في القلب.
كتب الشاعر الحزباوي بحقه رثاء
وهذا ما قاله الشاعر الخوزستاني عباس الحزباوي بحق المرحوم آیة الله الشیخ عیسی الطرفي، في قصیدة شعبية رثا بها هذا العلامة الرباني الكبیر، بعد رحیله، حیث أنشدها في نفس المأتم، ومن أبیات هذه القصیدة:
الیوم محراب العبادة مِحزن ومِعلن حِداد
والبلد للشیخ عیسی لبست إهدوم السواد
...
شیخ عیسی الناس مِنّه إدروس للثورة تعلّم
لیلة کَضّاه بالعبادة ویوما کَضّا بالجهاد
شیخ عیسی کِضا عمره كلّه للإسلام خدمة
مشهد وقم إله شِهدَن والنجف یِشهَد العِلمِه