سيرة وجهاد والدة شهيد الدفاع المقدس «محمد ياسر السبلاني»
«عذاب، أشهى من العسل».. روایة حبِّ الإمام الحُسين (ع) والمقاومة
الوفاق/خاص
سندس الأسعد
صدر عن دار الولاء للطباعة والنشر وجمعية الرابطة اللبنانية الثقافيّة رواية "عذاب، أشهى من العسل" للكاتبة اللبنانية أم كلثوم السّبلاني. الرواية تقع في 204 صفحات من الحجم الوسط، موزعةً على 19 فصلاً، وتروي جوانب من سيرة وجهاد والدة شهيد الدفاع المقدس محمد ياسر السبلاني (رض).
مقدمة الرواية تلفت إلى الحيز الرئيس الذي لعبته النساء في صياغة الفكر المقاوم ورفد جبهات المقاومة، وبالتالي تشكيل وعي جماعي يستنهض ضمير الأمّة، ويسقط رهانات العدو على إختراق هذا المجتمع.
تبصرُ بطلة الروايةِ النور خريف العام 1958 في محلة الأوزاعي في العاصمة اللبنانيّة بيروت، وتحديداً صبيحة عيد الفطر السّعيد "الأمر الذي اعتبر فأل خير" للعائلة البقاعيّة التي أسمتها "غادة" وليس "زينب" بسبب الظروف السياسيّة المتجذرةِ في هذا البلد.
وتتحدث الراويةُ عن مكانة جدّها، البقاعي الذي "لا يقصّ خيطٌ من دون استشارته"، وعن تمسكه بالتقاليد القرويّة الاصيلة، كما تصف للقارئ المكان الذي تقنط فيها العائلةُ الممتدة، فيتقاسم فيها الإخوة "الأفراح والأتراح"، ويقاسون "شظف العيش ومرارة الحرمان لأن ذلك كان مدبراً لهذه الفئة من اللبنانيين (الشيعة)".
كما تصف لباقة جدّتها وفطرتها السليمة وحُسن تدبيرها وتفانيها في خدمة جميع من في الدار، والتزامها الديني فهي "ربيبة عائلةٍ برز فيها العديد من العلماء ورجال الدين". لكنها في الوقت عينه كانت بارعة كحال جميع الأمهات اللواتي يبرعن في "إخفاء معالم الجريمة التي يرتكبها التعب في اعمارهن".
كالفيلم السينمائي، تستعرضُ الروايةُ يوميات أسرة "غادة" ليخيل للقارئ بأنّه يتناول الفطور مع والدها قبل انطلاقته بـ "عربيته" إلى دواميه الصباحي والمسائي في المطار بقميصٍ أبيض مغسولٍ بـ "قرص النيل" المتعارف عليه بين النسوة المهووسات بالنظافة.
كما يشاركه رحلته إلى صيد الأسماك يوم الأحد ليعود بـ "سلةٍ طافحةٍ بكرم البحر". كلُ هذه الأجواء تصقل شخصية الطفلةِ غادة مبكراً وتعدّها "للقيام بواجب القادم من التضحيات"؛ لتتحول همتها وفطنتها إلى موضوعٍ لتتباهى بين نساء عمومتها.
أول تحدٍ تخوضه "غادة" هو دخول المدرسة، تكافح لتنال حظّها من العمل، لكن العمر سرعان ما يخذلها ويخذل طموحها لتصير "طبيبة أو مهندسة أو معلمة مثل السيدة ليلى"، وذلك بسبب وساوس الأهلِ التي تقتلعُ من الفتيات المثابرات "أحلامهن النديّة" بقرارٍ "لا عودة عنه ولا استئناف فيه".
ضاع حلم البطلة لكنها كانت تثق بأنّ الله يصقلها "كما يريد ويصطفيني لأدوارٍ أكبر". بعدها تنتقلُ لتعلم مهنة الخياطة "على مضض" على يدّ السّيّدة فريحة. وهناك أصبحت "غادة" كأمها ترقّع "وجه الحياة بوشاحٍ من الضّحكات وخمارٍ من الرّضا"، فيذيع صيتها لمهارتها وتغدو مقصد النسوة.
تستباح فلسطين "على مرأى أعين الدول العربيّة"، ويبرز البعض في لبنان تخاذلهم وجبنهم وضياع هويتهم، بالتزامن مع "صحوة البيئة الشيعيّة لتثبت نفسها كمكون أساسي في الحياة السياسية والفكرية اللبنانيّة متثملةً بالرجل المعجزة ودوره المعجزة، سماحة المغيب الإمام موسى صدر.. الذي لم يغفل عن نصرة الفلسطينيين".
فتتبرع "غادة" بمبلغ الخياطةِ لأجل فلسطين، وتحثّ أخوتها وبنات عمومتها على ذلك كي لا تصنف يوماً ما في "خانة المتخاذلين". كما يتحول منزل عمّها الأكبر إلى مقرٍ للفدائيين بمن فيهم "ليلى خالد" التي دربتها على استخدام السّلاح، وقد أعجبت بحماستها وشجاعتها.
بعدها تشاركُ بعدة عمليات تهريب للبنادق، وتصف لنا احدى المهمة الخطيرة وما تخللها من أحداثٍ شيقةٍ تطلبت الحذر من "أي تصرف غير مدروس".. تنجح المهمة إذ إن الضابط يستطيع "التفتيش عن السّلاح في وجوهنا وجيوبنا حتى، لكنه عاجزٌ عن التفتيش في قلوبنا التي نخبئ فيها حبّنا واندفاعنا للثورةِ بوجه الظالم".
لم تكن ليلى خالد وحدها من صاغت اندفاعة "غادة" الثوريّة ذلك لأن "عاشوراء مدرستنا الأولى في الجهاد، والمشكلة قدماً في تاريخ أصالتنا".
تسردُ لنا الموروثات الشعائريّة خلال عاشوراء، تحوّل الحيّ إلى خليّة نحلٍ لطبخ "المدفونة" حبّاً بالحسين (ع)، وتهافت أيدي الصغار للحصول على "البسكويت المحشو بـ "الراحة" وكعك العباس".
وتسرد لنا خلفيات مشاركتها في تمثيل دورِ القاسم بن الحسن (ع)، أحد شهداء عاشوراء. وتشير البطلة إلى انعدام وسائل التوثيق المتوفرة اليوم "لكن لا بأس، فاجتياز امتحان العشق، حسب معايير أهل الهوى، لا يحتاج لتوثيق، ولا لكلِ تلك الأدوات. يحتاج شيئاً واحداً فقط، قلبك".
تضيف متحدثةً عن اصرارها على اجتياز كل العراقيل فداءً للإمام الحسين (ع)، وتقول: "حبّي للإمام الحسين (ع) جعلني أسلك كلّ الطّرق المتاحة للخدمة في سبيله، مهما كانت صعبةً وشاقة".
بعد عشرين عاماً، تنقل البطلة إلى مرحلةِ جديدة بعد زواجها من نسيبها ومدرس اللغة العربية الأستاذ ياسر. تستقبلها "ثلوج البقاع وصقيعه، لكنّ دف أهله، جعلني أنسى".
كيف لا فالأمر الذي "يعزز انتماءك للمكان هو الأحداث والذكريات". وتحدثنا عن الأكلات البقاعيّة التراثية التي تعمر بها بيوت الكرم البقاعي فـ "صفة الكرم هذه تولد مع البقاعي كشرط لازم لبقائه على قيد النخوة والمروءة". لحظات الوداع كانت قاسية الوقع على أهالي بريتال الذين ترك في نفوسهم الأستاذ "الأب والأخ والصديق والمرشد الآدمي" عظيم الأثر.
يستأجران منزلاً في حي الشيخ حبيب ويستقبلان مولدتهما الأولى في أيلول من العام 1979، ليتسع هذا المنزل على صغره وضيّق أحواله المادية، طوال ثلاثة أشهر، أكثر من 20 شخصاً نزحوا قسراً من بيروت بسبب الاجتياح الصهيوني "لأن ما يقدم بحبّ، يباركه الله ويزكيه". ولا تسلم بعلبك التي تخالف حساباتها "بيدر العدو الصهيوني، فيعاقب أهلها على مؤازرتهم ودعم للقضية الفلسطينية".
تتوالى ولادات "غادة" حتى صرّن ستة قبيل إلحاح صاحب البيت على إخراجهم منه. تقرر "غادة" الشروع في بناء منزلٍ مستقل، فتبيع ما مجوهراتها لأن "البيت الذي لا يملكه ساكنوه كثوب الإعارة لا يدفّئ" وكذلك فإن "كسرة خبز تؤكل باستقرار وسكينة أشهى من عسل مغمّس بالسّراب".
تساندها في اصرارها على بناء البيت "الحلم" الجارة أم علي فرحات التي كان أبناء "غادة" يعتبرونها جدتهم إذ "كان الجار وقتها جاراً" لا تنسى معروفها. وفي البيت الجديد، وبالقرب من مسجد الإمام علي (ع)، تعلو من المكبرات أصوات "الأناشيد الحماسيّة والثوريّة"، وتنطلق مسيرة يقودها السّيّد عبّاس الموسوي والسّيّد حسن نصرالله، دعماً لخيار المقاومة وشجباً للقرارات السياسيّة الجائرة.
لا تستطيع البطلة "أم طالب" المشاركة فيها لأنها تتخذ "من إعداد الذخائر البشريّة نوعاً آخر من الجهاد". فيما يدرب الأستاذ ياسر في "معسكره التثقيفي... دفعات من العاشقين"، يقصّ عليهم الأحاديث والحكايا وسيرة الإمام الحسين (ع).
وبحكم وجود الحرس الثوري الإيراني في المنزل الملاصق لهم، تنشأ بين الطرفين علاقةٌ وطيدة بين أفراد المنزل وقائد الثّورة، الإمام الخميني (قدس). يوم رحيل الإمام، يتجرع الطفل السّابع الفاجعة "لكن حزناً كهذا هو من أشرف الأعمال... رتّلت دموعي سورة يوسف على يوسف قلبي فكان مولودي خميني هذا البيت".
أبصر "محمّد" النور في 16 أيلول 1989، بعد أن بشرها بقدومه - في عالم الرؤيا" الإمام المهدي (عج)، "بأقل من طرفة عين كأقصر وأسهل ولادة".
دخوله إلى البيت كان أشبه بالزفة ولكن دون عروس "ليست كلّ الزفّات بحاجةٍ لعروسين أصلاً، كثيراً ما يحتفلون بالعريس وحده، على سبيل وداعٍ مثلاً". "ولو أن الأرواح قابلةٌ للقسمة، لتهافتوا، يسابق واحدهم الآخر، يعرضون أعوامهم على سابعهم، ليختار ما يحلو له من ربيع أعمارهم، كي لا تشيخ لحظةٌ واحدةٌ من زهرة شبابه".
محمّد هذا، الذي جعل البطلة تفتخر لاحقاً بأنّها أمّه "حتى صار اسمك هويتي وبطاقة التعريف الخاصة واسم الشهرة الذي بت أعرف به"، يتعلق مبكراً بالسّيّد عبّاس الموسوي يجري معه حواراً "أشبه بفضفضة وشكاية فيطول حديثه المترافق مع دموعه الجاريّة على طول وجنتيه". فوفقاً لقواعد الأمّ "نحن، كفئةٍ تنتمي لمذهب أهل البيت (ع)، أباة الضيم، ديننا الوحيد هو حبّ المقاومة ورفض الظّلم وعدم التسليم للعدو، وتقديم أغلى ما نملك في سبيل هذه الفكرة". قاد محمد - الأسمر صاحي العينين اللوزيتين- حروباً ضروساً مع أترابه، يبني المتاريس والدّشم، تشرّب حبّ المقاومة، ولم يكن لديه همُّ سوى "أن تكون المقاومة منتصرة".
لم يفوّت تشييعاً لـ شهيد ولا مسيرةً ولا احتفالاً إلّا وشارك فيه. وقد ورّطه هوسه في رماية الحجارة بمواقف محرجةٍ مع الجيران لكنّه لم يمتنع عن تقديم الإعتذار. وقد بقي أثر لمشاكساته تلك في زجاج شباك أحد الجيران حتى بعد استشهاده إذ قرر الحفاظ على ذلك الأثر كتذكارٍ للشهيد.
وتحدثنا غادة عن نفور ابنها الشّهيد من المدرسة "مدينة الرعب" حيث لا شيء سوى "الحشو" ما دفعه مبكراً للهروب منها محاولاً "نفش ريش رجولته القابعة في زوايا طفولته"، محتميّاً بأخواته اللواتي "يدافعن عنه إذا ما قبضت عليه يدا عدالتي... وكي يضفي الشرعية على هروبه، اشتكى ذات مرة أنّ المعلمات في المدرسة متبرجات" حتى أنه "عمل كعنصر انضباط لمتابعة أمر التزام (أخواته الخمسة اللاتي تكبرنه) بالزيّ الإسلامي".
وتلفت الرواية إلى نعمة انتشار المدارس الإسلاميّة في مجتمع المقاومة "فلا يضطر الأهل الملتزمون دينيّاً للجوء إلى تسجيل أبنائهم في مدراس لا تتلاءم ومعتقداتهم. هذه واحدةٌ من بركات الثورة الإسلاميّة، التي كان من أهدافها تمكين ودعم المسلمين أينما وجدوا في العالم".
وحرصاً من الأبِ على مصلحةِ ابنه وخشيّةً عليه "من مخالب الصيّاد (حرب العدو الثقافية) الماكرة"، وذلك "إثر الإنفتاح على أعالم المظلل"، يقرر زوج "غادة" تسجيله في أحد المعاهد المهنيّة في العاصمة بيروت بدوامٍ داخلية ليبدأ فصلٌ جديدٌ من "عذابات محمد ومغامراته".
هذه الغربة الجغرافيّة والمعاناة، التي ستمتد لخمس سنوات يدفع ثمنها أهل البقاع المحرومين من أبسط الخدمات الأساسيّة نتيجة دعمهم لخيار المقاومة، وحرصاً من العائلة على أن تخرج للمجتمع "جيلاً صفحاته السلوكية نظيفة جدّاً وسلوكه التربوي لا حكم عليه... يسيرون على العجين فلا يلخبطونه، ويحفظون دستور المكارم والفضائل". يتخرج "الشيخ محمد"، الكنية التي ستترك أثر نفسي عليه لاحقاً عليه، من المعهد حاصلاً على شهادة الإمتياز الفني في الإلكترونيك ويلتحق بمعهدٍ آخر لدراسة اختصاص "صيانة الأدوات الطبيّة" كي "يدخل ميادين الجهاد وبحوزته شهادة يثبت بها قدراته العلميّة ... المقاومة ليست زنداً وعضلات فقط، بل عقلاً يدير ذلك الجسد"، وفقاً لأبي طالب، زوج "غادة".
في الغضون، تندلع حرب تموز الهيستيرية صيف العام 2006، ويتعرض "حي الشيخ حبيب"، معقل المقاومة، الذي تقنطه العائلة لغاراتٍ ممنهجة "وكأن العدو أراد محو هذا الحي من الخارطة البقاعية".
يومها كان محمد دون الثامنة عشر من عمره، ولم يكن قد أتم الدورات التي تؤهله للانضمام إلى قوافل المجاهدين، فخطوات المقاومة منظمة "هم لا يبيعون البطاطا، بل يشترون النصر بأقل الأرواح الممكنة".
لاحقاً، ترتأي قيادة المقاومة أن يتطوع التعبويون لحراسة الحي والتبيلغ عن أي تحرك مشبوه للعملاء الجواعى "لأدنى شعور بالمرامة الوطنية والحس الإنساني".
"لقد انتظر محمد هذا الأمر بفارغ الصبر، وإن كان يفضل المواجهة المباشرة مع العدو". تحولّ الحي إلى مدينة أشباح، ويرفض محمد المغادرة. "تريدين أن يقولوا عني جباناً؟"، يسأل أمه. فتقرر العائلة الصمود في حديقة المنزل الخلفية "تحت شجرة الجوز العملاقة" وفوق رؤوسهم "مسيرات الاستطلاع "أم كلب (MK - أم كا) كما كان يحب محمد أن يسميها". مواقف مرعبة تصفها الراوية لم ينجيهم منها إلا التوسل بالسيدة الزهراء (عليها السَّلام). "يا زهراء!! دخيلتك... لم تكل ألسنتنا عن ذكر الله والتوسل بأهل بيته طيلة فترة ثلاثة وثلاثين يوماً". بيت جُبِلت لبناته على هذا الحبِّ فكان مواسيّاً لأحزان الزَّهراء (ع) بما يمتلكه من يسير المال فـ "حب فاطمة معجزةٌ ممتدةٌ منذ خلق الله العرش إلى يوم القيامة".
طيلة أيام المحرم، تطعم "غادة" على حبِّ الإمام الحُسين (ع)، تطبخ "القيمة" العراقية بمساعدة محمّد وإخوته. الجار العراقي يصف همّته قائلاً: "عنده فد سرعة تخبل. ما شاء الله عليه. الزلم ما تطاريه"، إذ سحق ذات مرةً وحده "خمسين كيلوغراماً من الحمص في ساعةٍ واحدة".
بعد سنواتٍ ثلاث من حرب تموز، صيف العام 2008، يلتحق محمد رسميّاً بصفوف المقاومة. ويحمل اسمه الجهادي "عذاب" ليخوض جهاديه الأكبر والأصغر، بطلاً في المحاور وراهب ليلٍ يترك أثراً حتى في الذين يكبرونه سنّاً، لما بلغه من مراتب معنويّةٍ لم يبلغونهت هم طيلة سني جهادهم.
"ولأداء الصلاة -في أول وقتها- قدسية كبيرة عنده، وصل به الأمر أن يطفئ النار تحت القدر الذي أطهو فيه الطعام كي أتوقف عن الطبخ إذا ما رفع الأذان". لم يكن "من أهل الأرض"، تعبّد في خطوط التماس المقفرة متحديّاً كلّ الظروف المناخيّة القاسية حتى "تشقق كتيب الأدعية"، وذلك تأسيّاً بالسّيّدة الزهراء فـ "ما نفع جهادنا إن كنا لا نسير على خطى أهل البيت (ع)؟".
كلُ هذا نشأ عليه محمد منذ أن كان روحاً في عالم الذرّ ثم نشأ طفلاً يقلد أمّه في إشارةٍ إلى أثر التربية الصالحة في صياغة شخصية الطفل وصقلها.
لم يبح يوماً عن طبيعة عمله التزماً منه بالتكليف فلا "صورة له في الميدان ولا فيديو يستعرض فيع صولاته وجولاته" إيماناً منه "أن ما يحفظ بين يدي الله لا يمحى ولا ينسى".
لم تكن "غادة" زاهدةً بابنها لكن ليس من عادتها "إن تنصب فخاخاً لقدمه التي تمشي في طريق الحقَّ". ليلة الرغائب، ليلة الجمعة الاولى من شهر رجب الأصب، يقصد مسجد الحيّ قبل الرحيل، يؤدي صلاة الظهرين صائماً، ثم يودع أسرته.
"هناك مبلغ من المال في خزانتي، ستحتاجينه في غيابي ... روحه كانت تحلق في فضاءات أخرى... أراد أن يخلع كل الأثواب التي تربطه بالدنيا". عبثاً تحاول الأم الاتصال للاطمئنان على ابنها... "إن صاحب هذا الرقم خارج الحدود، يقاوم العدو الذي يعيث فساداً في بلاد الله".
يتحقق وصال "عذاب" في 20 أيار 2013، أثناء قيامه بواجبه بالدفاع عن كرامة الأمّة في ملحمة القصير البطوليّة. ترتدي "غادة" ثوباً أسوداً انيقاً وخاطب الناعين "تريدون إخباري بأن محمداً قد قضى شهيداً؟ مرحباً بالشهادة. لقد تعب ساعيّاً وراءها، واجتهد لنيلها، وإنّا بما اختاره الله لراضوان".
وتضيف: "إن انتصار الجيوش رهن بتماسك قادتها ونحن الأمهات قائدات هذه المسيرة، مسيرة المقاومة الإسلامية، عندما يحتدم الموت نلبس الصلابة دروعاً، فوق انكساراتنا اللّازوردية نموّه وجه لهفتنا، ونخفي قلقنا الأمومي، الذي منه جبلت طينتنا، فلا نبطئ أولادنا عن دفاع، ولا نؤخرهم عن نزال".
تودعه: "يا سيدتي يا زهراء (س)، يا أمه الحنون، تلقيه، ودواي كسره"، فقد درست "غادة" كلمات الوداع جيداً. انتقتها من قاموس "لم أرَ إلا جميلاً" فهي من فئة الأمهات اللواتي لا يدخرن أبناءهن "لحظة ننجبهم، ندون أسماءهم في دفاتر السعداء، ونتقاسمهم مع الفداء، دون قيدٍ أو شرط"، الفداء لنهج المقاومة وفق البطلة: "أشهى من العسل".