سلالة النّوْر
د. سناء الشعلان
دم سلالته المباركة يتدفّق في أعماقه ووجدانه وشرايينه، فيدفع حلمه إلى أن يكبر من أجل أن يسافر إلى القاهرة ليستكمل علومه الإسلاميّة في الأزهر الشّريف ليفقّه نفسه، وينفع أمّة المسلمين، منذ أجيال طويلة رجال أسرته الواحد تلو الآخر يحملون راية الشّريعة الإسلاميّة، ويسمّون الشّيوخ في المدينة، أبوه وجدّه ورجال أسرته جابوا بقاع الوطن الفلسطينيّ،وحملوا لواء الدّين والإحسان والخير والبناء، وهذه البذرة الصّالحة تنمو في أعماقه منذ وُلد، فمنذ صغره هو مفطور على الصّلاة والصّوم والعبادة والبرّ والإحسان، وقد حفظ القرآن الكريم كاملاً منذ طفولته، وكثيراً ما صلّى بالجماعة إماماً في صلاة الفجر، برامج حياته كافّة مكيّفة وفق هدف واحد، وهو الذّهاب إلى الأزهر لإستكمال علومه الإسلاميّة، حتى زهرة خطيبته اختارها وفق هذا البرنامج، فقد كانت صالحة عابدة مثله،تحفظ الكثير من أجزاء القرآن،وتتوق مثله إلى دراسة العلوم الإسلاميّة في الأزهر الشّريف.
كان عليه أن يحزم نفسه وكتبه، ويسافر إلى القاهرة بصحبة خطيبته بعد أن يتزوّجها كي ينخرطا في دراسة العلوم الإسلاميّة بعد أن حصّل لهما قبولاً في الجامعة،ولكنّ الجدار العازل الذي وُلد من رحم شيطانيّ وقف حاجزاً أمامهما،ومنعهما من السّفر خارج مدينته القديمة، وحطّم أحلامهما، وغيّر مشاريع حياتهما إلى الأبد.
وعلى الرّغم من ذلك كان من الممكن أن يقبل بواقعه الجديد لو لم يسرق الجدار معظم أصدقائه، ويقتلهم الواحد تلو الآخر على تخومه وبوّاباته،عندها قرّر أن يطعم سدنة الجدار للنّار والموت،هدوءه الغامر أجاد أن يُخفي مخطّطه المزمع،وفي اللّحظة المناسبة كانت الضّربة القاسمة،اختارها أن تكون في ليلة زفافه على المرأة التي اختارها شريكة لحياة الضّنك المريرة،خرج منذ الظّهيرة إلى صلاة الظّهر،وبعد أن أدّاها بأناة وخشوع،خرج إلى مراده،كان يحمل في كيسه الصّغير مسدّساً ومجموعة من القنابل،ويستعيد في ذاكرته تفاصيل خطّته المرسومة للتّسلّل إلى المعهد الدّيني اليهوديّ الدّاخلي، والدّلوف إلى قاعة التّدريس الرّئيسيّة ليوسعهم موتاً، انتقاماً منهم لأصدقائه الذين قتلوهم، ولحلم دراسته الذي أجهضوه في تبرعمه، ولأرضه التي قسمها الجدار دون رحمة أو وجه حق، ولخطيبته التي يعشقها،ولن يستطيع أن يصطحبها معه إلى الأزهر الشّريف كما وعدها مراراً وتكراراً.
كان أمر الدّخول إلى المعهد سهلاً بمساعدة ملامحه الخلاسيّة الشّقراء التي يملكها وراثة عن جدّة أبيه ذات الأصول التّركيّة التي تزوجها جدّه عند دراسته العلوم الإسلاميّة في القاهرة قبل عقود طويلة، وعاد بها إلى مدينته القديمة حيث عاشت وماتت ودُفنت.
بخطوات ناقرة بخفّة على الأرض كرذاذ على ماء وصل إلى القاعة الرئيسيّة، وبسرعة خاطفة شرع ينثر الموت على الجميع بقنابله وبمسدسه،لم يدركه الحرس برصاصهم إلاّ وكان قد أرسل الجميع إلى جحيم الموت، ثم استسلم إلى جنّته الخضراء الموعودة، وحلّق بأجنحة من نور نحو البعيد، وترك جثته لهم ليركلونها بأقدامهم،ويمثّلون بها،ويسجنوها أياماً في حافظة مبرّدة قبل أن يسمحوا بدفنها على عجل في جُنح اللّيل، وكأنّها فعل محظور البوح به.
لم يزفّ إلى عروسه،ولم تُزفّ إليه،وبقيت في ثوبها الأبيض تنتظره طويلاً دون أن تصدّق أنّه لن يبرّ بوعده لها،ولن يتزوّجها،بل ولن يعود إليها أبداً،فليس من عادته أن لا يبرّ بوعد قطعه على نفسه،ولكن يبدو أنّه لن يستطيع أن يبرّ بوعده لأوّل مرّة في حياته،كذلك لن يستطيع أن يعود إليها،لذلك عليها أن تذهب هي إليه،وإن كان هو من سلالة العلماء الأبرار،فهي من سلالة الشّهداء الطّاهرين،فليس هناك في أسرتها بيت لم يقدّم شهيداً؛فهي ابنة شهيد،ووالدها كان ابن شهيد،وجدّها ابن شهيد،بل ابنها المنتظر الذي لم تحظَ به من الرّجل الذي تحبّه لا بدّ أنّه سيحلم بالاستشهاد،فما عليها إلاّ أن تكون شهيدة أيضاً؟
خلعت ثوبها الأبيض إلى ميقات، وعندما حان الوقت المنتظر، استحمّت، وتمشطت، وتعطّرت، وتزيّنت، وتحزّمت بحزام ناسف،ويممتْ نحو الجدار الفاصل الذي أخذ منها كلّ من تحبّ،أُمرت بالوقوف على عتبة بوّابته،لكنّها لم تفعل،وفي اللّحظة المناسبة،تحولّت إلى جمرة نار تكوي كلّ من حولها من جنود صهاينة،وتهزأ من الجدار الذي انهارت أجزاء منه من شظايا حزامها النّاسف،وحمل على أكتافه مكرهاً طرحة عرسها ملوّحة بالأفق لروحها التي تحجل في دربها نحو السّماء لتلحق بسلالتها النّورانيّة الطّاهرة.