اللطميات الحسينية... الجسد آلة إيقاعية
جمال سامي عواد
كاتب وباحث موسيقي
عندما منع "السيد الأبيض" العبيد الذين جاء بهم من أفريقيا من تبادل الحديث بلغاتهم المحلية، وجدوا طريقة أخرى لتشفير خطاباتهم ورسائلهم باستخدام الطبول، كما كانوا يفعلون. لكن مع تجدّد قمع هذا الأسلوب، لجأوا إلى تبادل الرسائل عبر الأداة الإيقاعية الوحيدة المتوفّرة لديهم، الجسد.
لم يخترع هؤلاء شيئاً جديداً في ذلك نظراً إلى قِدَم استخدام الجسد البشري كآلة إيقاعية، أو ما يسمى اليوم body percussion. وهو نشاط موسيقي وطقسي قديم وُلِد مع وعي الإنسان للكون، وموجود حتى اليوم، كالسامان الأندونيسي وموسيقى الإبط الإثيوبية، ورقصة جوبا وعظم الهامبون في أميركا. وما زال سكان نيوزيلاندا حتى اليوم يقومون باستعراض رقصة الهاكا القديمة التي تعتمد على الحركة والصوت واللطم على الصدور والرؤوس، قبل مبارياتهم ومنافساتهم الرياضية. بل وصل الأمر إلى أن يصل هذا النشاط إلى المجال العلاجي كما هو الحال في طريقة حديثة من طرق العلاج بالموسيقى المسماة BAPNE METHOD.
لكن يبقى التجلي الأبرز لهذا الطقس هو اللطميات الحسينية، والتي تعتبر ذروة في استخدام الموسيقى والحركة في الشعائر الدينية العلنية، حيث يتم اللطم على الصدر بإيقاع محدد ومدروس الحركة يتناسب مع وزن القصيدة التي يقوم بأدائها شخص يدعى "الرادود"، مع ترديد جماعي لبعض المقاطع في انضباط مثير بالقياس إلى العدد الكبير من المشاركين.
يشعر جمهور اللطميات بنوع من الانجذاب الناتج عن الارتهان للإيقاع الثابت في ظاهرة تسمى الانخطاف (trainment)، وهي ظاهرة نجد مثالاً عليها في انتظام خطوات شخص يسمع الموسيقى بشكل لا إرادي، أو في استقرار نبض إنسان على معدل مطابق لنبض إيقاع يسمعه، كمظهر من تأثيرات الإيقاع الفيزيولوجية على الجسد.
تصل اللطميات إلى ذروة من النشاط الموسيقي (لحن، إيقاع، حركة) بحيث يصبح من غير الممكن تجاهلها كنشاط إنساني موسيقي فلسفي يرتكز على أثافٍ 3 هي: الفكرة، العاطفة، الجسد. وتصبح الهوية الدينية المحلية غير ذي أهمية هنا، لأنها تلتقي في هذه النقطة مع معظم الهويات الإنسانية على مدى جغرافيا العالم من بوابة الفلسفة والتاريخ. وهذا توسّع أفقي للإحساس بالهوية الإنسانية يتقاطع مع توسّع شاقولي يهدف إلى تجذير وتجديد للهوية، فجسد "اللطام" يُعامل كمذنب، بسبب تخلي جسد آخر في التاريخ عن نصرة الحسين، مع تثبيت اشتراك الجسدين في الهوية، ما يُراكم الإحساس بأصالتها، وصولاً إلى الالتقاء بهوية إنسانية مبنية على قيم التضحية والعدل.
يتكوّن المجلس الحسيني من: الافتتاح، القريض، الموضوع، العروج إلى المصيبة، ذكر المصيبة، الختام. وتعقبه أو تتخلله اللطميات المرافقة لأداء القصائد ضمن ضوابط موسيقية وشعرية معروفة. كما تتكوّن الافتتاحية من مقدمة صغيرة تتضمن الصلاة على النبي وآل بيته. أما القريض فهو الجزء الأبرز من هذه الأقسام، وفيه تتجلى الشعائر بأبهى حللها، حيث يتم إلقاء القصائد بالشعر الفصيح والشعبي وبألحان تعتمد على ما يسمى "الأطوار الحسينية"، وهي أجزاء من المقامات الموسيقية الشرقية، تدور وتركّز على منطقة محددة من سلّم المقام الأصلي مع تنويع في المد والترجيع في الصوت والأنين. وتختلف هذه التقنيات الموشحاتية بحسب الطور الذي يتم أداؤه (راجع كتاب: "الأطوار الحسينية في حلتها الجديدة"، رضا الطويرجاوي).
ويبرز في معظم فقرات المجلس الحسيني تلحين الأدعية وأقوال الحسين بلحن غير موقّع. أما القريض، فتؤدى فيه القصائد الشعرية الفصيحة والشعبية على تشكيلةٍ من "الأطوار الحسينية" التي يبلغ عددها نحو 20 طوراً، سُمِّيت إما نسبة إلى المنطقة التي اشتهرت بها كطور "الجنوبي" الذي يؤدى في جنوب العراق وإيران، أو نسبة إلى الحدث الذي تؤدى فيه كطور "العاشوري" حيث يؤدى في عاشوراء أو يأخذ اسم مخترع الطريقة أو النغم مثل طور "الكعبي" أو "الزريجي" وغيرهم. وقد يُتَّخذ اسمه من أسلوب أدائه كطور "الحَدْي" المأخوذ من حداء الإبل، وطور "الدَّرْج" الذي يبدأ به القريض، ويتم أداؤه بأسلوب المد والترجيع والتحزّن المثير للبكاء، ثم يتدرج إلى أطوار أخرى تشكل ذروة في القريض كطور "المُثْكِل" و"التخميس".
ولكن اللطميات بالتحديد، قد اتخذت مساراً أكثر تطوراً موسيقياً من باقي فقرات المجلس الحسيني، ففي لطمية "سفرة إلى الله" للرادود العراقي حيدر البياتي النجفي على سبيل المثال، نجد ابتعاداً عن مبدأ العمل على الطور الحسيني باتجاه استخدام كامل لسلم مقام النهاوند من درجة صول، مع بداية غير مألوفة في اللطميات على شكل "آربيج" مينور (صول-سي بيمول- ري)، من قراره إلى جوابه مع الدوران في منتصفه بلحن يمشي على التفاصيل الدقيقة لإيقاع "الهيوة" العراقي. بينما نجد في لطمية "صلاة الليل" للرادود البحراني حسين الأكرف، قرباً أكثر من المثال السابق على اعتماد الأطوار، ولكنه مع ذلك جدد في الأسلوب واستخدم طبقات عالية من مقام النهاوند، ودار قليلاً في كل مناطقه وأشبع أذن السامع بها، كما أنه قدّم بعض المقاطع بــ "جنس الصبا" مثل ما نسمع في (يا نور الله ما يشقى ولا يخيب اللي دعاه...). أما الإيقاع فهو الذي يحضر ويغيب أو يضعف ضمن حركة خاصة تحددها المعاني والأداء، ويتجلى في عملية اللطم.
ويندر أن توجد آلة إيقاعية مرافقة للطميات، خلافاً للطميات المسجلة في الأستوديوهات. ويتحدد الإيقاع تبعاً للأوزان الشعرية التي تُنظَم عليها القصائد، وهنا تشكل حركة اليد في اللطم تشكيلاً معيناً بحيث تكون الضربة القوية (غالباً) في موقع القوة من الإيقاع (الدّوم أو beat) ويقوم الرادود بضبط هذه الحركة من خلال أسلوب الأداء والتحفيز اللفظي، وبمساعدة بعض اللطامين الخبراء في هذا الشأن. ومن أشهر أوزان الشعر المستخدمة في المجالس: وزن المجردات (المجاريد) والأبوذية، النصّاري، والبحر الطويل.
والمجردات هي القصائد الشعبية التي تكون كل شطورها بالروي والقافية نفسيهما في الصدر والعجز مثل لطمية "سفرة إلى الله السابق" ذكرها حيث جاء فيها: "إلى الله سفرة إلى الله – حسيناه بدمنا حسيناه- مشيناه دربك مشيناه ".
أما الأبوذية فهي مقابل عراقي للعتابا الشامية مثل: "لْبِسْت الحزن طول العمر يلباب – ذَهيل ولا بقى لي فكر يلباب - أَنِشْدَك وين محسن سِقط يالباب- يوم العصرة والزهرة الزكية". و هناك الكثير من الأوزان الشعرية الأخرى مثل وزن الموشح والنصّاري، الفايزي، التجليبة وأوزان أخرى.
ولكننا نجد في لطمية "سفرة إلى الله" تنويعاً في الوزن والقالب، إذ يجري النص في وزن المجاريد ولكنه يعود إلى قافية مختلفة في كل مقطع. فالنص يمكن إرجاعه إلى قالب يشبه قالب الطقطوقة في الغناء مع بعض التطوير في السرعة، إذ هناك مقاطع سريعة، ومقاطع بطيئة بحسب النص.
وهنا يدهشنا الالتزام الدقيق في إيقاع اللطم نظراً للعدد الكبير من اللطامة غير الموسيقيين، فاللطمة هنا تأتي على آخر زمن في إيقاع الهيوة العراقي (6/8) والذي يصعب على غير الموسيقيين ضبط حركاته، وذلك خلافاً لمثالنا الثاني (صلاة الليل) حيث الإيقاع رباعي سهل الفهم والتنفيذ في اللطم، بالرغم من التنويع أيضاً في الوزن المستخدم، وفي تكرار عبارة صلاة الليل واستخدامها كتكنيك "سينيو" المستخدم في الطقطوقة العربية، وهي عبارة أو مقطع كلامي يتكرر استخدامه في نهاية كل مقطع.