محلل سياسي سوري يتحدث للوفاق عن «إيلي كوهين»:
من التجسس على القادة حتى التأثير على الأنظمة الفكرية للشعوب
أمل محمد شبيب
سوريا العربية، الدولة التي رفضت فكرة الإحتلال الصهيوني لفلسطين، كانت الداعمة لفلسطين وشعبها ضد الكيان الصهيوني، وشهدت وخاضت مع مصر والعراق والأردن حرب الـ 67، حين احتل الكيان الصهيوني في ذلك الوقت الجولان، لذا، لم تكن سوريا بعيدة عن عين وأهداف الموساد الصهيوني، نظراً لخصوصية هذا البلد وموقعه الإقليمي والإستراتيجي، فكانت سوريا وجهة الموساد الصهيوني، كما لبنان وفلسطين والعراق وغيرها من الدول، لنشر جواسيسه على الأراضي السورية محاولاً الإيقاع بسوريا ورسم خططاً لجواسيس ربما استطاعوا ان يخترقوا بعض أجهزة الأمن السورية، لكن النتيجة كانت تتبّع الجواسيس والإيقاع بهم والقبض عليهم.
بتاريخ 18 مايو/ ايار 1965، وتحت عنوان" بإسم الشعب العربي في سوريا قررت المحكمة العسكرية الإستثنائية إعدام العميل الإسرائيلي "ايلي كوهين"، وهكذا أعدمت سوريا حكومة وشعباً أبرز وأهم جاسوس زرعه الموساد الإسرائيلي في سوريا والعالم العربي.
من هو ايلي كوهين؟ وما هو تاريخ التجسس الإسرائيلي في سوريا؟ وهل كانت سوريا أرضاً خصبة للعمل الموسادي على أرضها؟ في قضية التجسس الإسرائيلي في دول المنطقة، تتابع جريدة الوفاق هذا الملف من "سوريا" حيث أجرت تحقيقاً من سوريا حول هذه القضية وإلتقت بالمحلل السياسي والنائب السوري السابق مهند الحاج علي.
الأحزاب القومية والوطنية تقطع طريق التجسس أمام العدو الإسرائيلي
من التاريخ إنطلقنا في حديثنا حول التجسس كعلم وتقنية مع المحلل السياسي مهند الحاج علي، مشيراً الى تلك الأيام التي كانت تدعم فيها الحكومات الغربية الكيان الإسرائيلي سعياً منها لتأسيس "دولة" في منطقتنا العربية، رغم معرفتها بأن هذا المشروع سيلاقي مقاومة شديدة سواء على المستوى الرسمي او الشعبي، وفي هذا يقول الحاج علي بأن الكيان الصهيوني وفكرة اقامته منذ العام 1948 وحتى اليوم، قام بدعم مباشر من القوى الغربية العظمى مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، خاصة أنها دول كانت تملك خبرة واسعة في جميع المجالات، وهي دول إنتصرت في الحرب العالمية الثانية، بينما كانت الدول العربية وخاصة الدول المحيطة بالكيان الصهيوني أو التي تملك حدوداً مع فلسطين المحتلة، كانت هذه الدول لتوّها قد خرجت من الإستعمار والإنتداب الفرنسي والبريطاني، وبالتالي لم تكن تملك تلك التكنولوجيا او ذاك العلم الحديث بما يخص علم الجواسيس، وفعلاً شهدت المنطقة خروقات مختلفة من قبل الكيان الصهيوني التي استطاع أن يحققها في أكثر من مجال، لكن مع تقدم الأيام ومع إنتقال انظمة الحكم وخاصة في سوريا الى الأحزاب الوطنية والقومية، أولت هذه الأحزاب الأهمية الكبرى لهذا الموضوع، بقطع الطريق أمام العدو لأن تكون سوريا بيئة سهلة وخصبة لهم وتم ذلك من خلال القبض على العديد منهم ومنع وصول هؤلاء الى الأراضي السورية ومكافحتهم.
الجاسوسية علم خاص
لم يحظ اي جاسوس إسرائيلي في سوريا شهرة، كالشهرة التي حظي بها الجاسوس الإسرائيلي الذي سمّى نفسه " إيلي كوهين"، ذلك الجاسوس الذي ارتبطت به عملية تجنيد معقدة بعدما تم زرعه في قلب المجتمع السياسي والاقتصادي والعسكري باسم مستعار لشخص سوري غير موجود وبهوية مزورة، والذي كما يقول الحاج علي كان يحاول إستثمار عدم إمتلاك سوريا في ذلك الوقت الخبرة المطلوبة والتكنولوجيا الخاصة بعالم الجواسيس او مفاتيح هذا العلم الذي أصبح علماً خاصة يُدرّس في الجامعات، لاسيما جامعات المخابرات، ومما يجب قوله في هذا الملف بأن اجهزة المخابرات ومكافحة الجاسوسية كانت لا زالت ناشئة وبالتالي لم تكن تملك اساليب التعامل مع هذه الفئة من الجواسيس أو حتى تستطيع اكتشافهم حتى، لكن سوريا استطاعت ومع تطور التكنولوجيا ووصول شخصيات وطنية في سوريا الى سدة المفاصل الأساسية، اكتشاف هذا الجاسوس عن طريق ارساله رسالة اعترضتها اجهزة المخابرات السورية وتم تحديد مكانه وإلقاء القبض عليه. ومن المهم الإشارة الى أن عمل الجاسوس بشكل عام ومن خلال التدريب الذي يتلقاه يجب ان يكون عملاً طبيعياً عادياً غير متميز في المجتمع، لكنه يتميز بشخصيته بأن يكون شخصاً إجتماعياً يملك شبكة علاقات كبيرة من أجل تحصيل اكبر قدر ممكن من المعلومات وهذا ما كان تميز به الجاسوس "كوهين"، لكن تم إلقاء القبض عليه وإعدامه في ساحة المرجة.
من هو" كامل أمين ثابت"؟
هو "إلياهو شاؤول كوهين" أو "إيلي كوهين" والذي عرف باسم "كامل أمين ثابت"، ولد في الإسكندرية عام 1924 ونشأ في حي اليهود، لم يكمل دراسته في الهندسة وانضم إلى منظمة الشاب اليهودي في مصر لتشجيع اليهود المقيمين على الهجرة إلى كيان الاحتلال، وانتقل إلى كيان الاحتلال عام 1957 حيث كان الموساد بانتظاره.
بدأ تدريب كوهين أولاً على اللهجة السورية على اعتبار ان تجنيده يتم لتنفيذ مهمة تجسسية في دمشق، ثم تمت مساعدته لبناء شخصية مزيفة تحمل اسم كامل ثابت "رجل الأعمال السوري المسلم والمقيم في الأرجنتين". ولأداء هذه المهمة تعلّم كوهين الدين الإسلامي والقرآن وحفظ أسماء جميع الشخصيات السورية على مختلف حقول عملها من السياسة والاعلام والاقتصاد والأمن. وتم تدريبه أيضاً على استعمال الحبر السري والأجهزة اللاسلكية وفنون القتال والرماية واستخدام مختلف أنواع الأسلحة.
إلقاء القبض على إيلي كوهين وإعدامه علناً
عند وصوله الى سوريا، كانت الخطوة الأولى تكوين شبكة علاقات مع شخصيات رفيعة المستوى في البلاد مثل رئيس الجمهورية أمين الحافظ ورئيس الوزراء صلاح البيطار ورئيس حزب البعث ميشيل عفلق. حينها، استطاع كوهين ان يسرب أخطر المعلومات المتعلقة بالأمن القومي السوري إلى الموساد فيما يتعلق بالأسلحة التي اشترتها دمشق من الاتحاد السوفياتي إضافة لتحركات كبار الضباط السوريين، رغم عمله التجسسي الموسادي، فقد اكتشف أمره من قبل الأجهزة الأمنية السورية، وتم القبض عليه، وبعد القبض عليه وصلت إلى الموساد رسالة فارغة من هاتفه وهي إشارة على ان كوهين ليس بحال جيدة لكن بعد دقائق تبعتها رسالة أخرى ساخرة تفيد ان "جاسوس الموساد قد وقع".
في أيار عام 1965 تم اعدام إيلي كوهين علناً في ساحة المرجة. حيث كانت صورة جثته معلقة أمام جميع المواطنين السوريين، وكانت صورته من أقسى الضربات التي يتلقاها الموساد، وهي من أهم الأسباب التي جعلت الكيان الإسرائيلي يطالب برفاته حتى اليوم.
ومؤخراً، وضع الكيان الصهيوني حدا للجدل الدائر منذ عقود بشأن كوهين، فقد كشف جهاز الموساد بتاريخ 12 ديسمبر/ كانون الأول 2022 النقاب عن آخر برقية أرسلها جاسوسه الأسطوري "إيلي كوهين" قبل اعتقاله وإعدامه في دمشق، وقدم مدير الموساد ديفيد بارنيا إلى متحف إيلي كوهين نسخة من هذه البرقية التي أُرسلت في 19 شباط/فبراير 1965، وهو التاريخ التقديري للقبض على الجاسوس، وجاء في البرقية المكتوبة بالفرنسية في الجملة التالية "الاجتماع في المقر الرئيسي لهيئة الأركان الليلة الماضية في الساعة الخامسة بتوقيت غرينتش مع أمين الحافظ وكبار الضباط" أي مع الرئيس السوري في ذلك الوقت.
الجاسوسية سلاح الدول
الجواسيس والجاسوسية، سلاح الدول في حربها ضد الآخر، ونظراً لحساسية دول المنطقة يشكل التجسس نقطة خطيرة يمارسها الكيان الإسرائيلي ضدنا، وفي هذا يرى الحاج علي بأن الجواسيس أدوات السلاح القديم الذي دائماً ما تستخدمه الدول ضد أعداءها، وقد تطور هذا السلاح ليصبح علماً قائماً بحدّ ذاته، وتطور علم الجاسوسية مرتبط بإمكانية حصول الناس على التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت متاحة في ايدي الجميع، إذ اصبحت عملية إندماج الجاسوس داخل المجتمع الذي يشكل هدفاً للعدو عملية سهلة جداً، رغم حصول هذا الجاسوس على تدريب معقّد، لكن إندماجه في المجتمع اصبح اكثر سهولة، لذلك فإن أجهزة المخابرات أو مكافحة الجاسوسية تحتاج الى ادوات حديثة وحتى يقظة عالية، ويجب أن يكون لدى كوادرها الخبرات المناسبة من أجل مكافحة هؤلاء.
القبض على الجواسيس ضربة صاعقة للكيان الإسرائيلي
في كل بلد لا سيما في بلداننا العربية، يشكّل القبض على الجواسيس واعتقالهم ضربة صاعقة للكيان الإسرائيلي وموساده، ورغم ذلك لم يتوان هذا الكيان عن استخدام الموساد وجواسيسه في حربه المستمرة مع الدول العربية، وهنا يضيف مهند الحاج علي بأن العدو الصهيوني بسبب إمتلاكه التنكولوجيا الحديثة والأدوات الحديثة التي تعمل على تفعيل الجواسيس وتدريبهم وزرعهم في الدول، وصلت به الأمور في أحد المرات أن تقود وزيرة الخارجية الصهيونية السابقة شعبة للجواسيس في الموساد الإسرائيلي وكان جميع افراد هذه الشعبة من الفتيات والنساء، إذ كانت تعمل على تجنيد الكثير من الشباب المصريين من خلال إرسال فتيات جميلات جداً الى شرم الشيخ للتعرف على شباب عرب خاصة الشباب الذين لديهم مراكز مهمة في المجتمع، مثلاً مدراء شركات أو في مفاصل حساسة وما الى هنالك. إذاً تطور ملف الجواسيس داخل الكيان كبير جداً وواسع ومنتشر جداً، ولا يفرق في العمل الجاسوسي الموسادي بين رجل وإمرأة، لذلك يعتمد الكيان والموساد في عمله على الجاسوس الميداني الذي يتنقل ويجمع معلومات ليس من مكان واحد، بل من أماكن متعددة، كما أن مكافحة هؤلاء مهم جداً ويشكل ضربة للكيان الإسرائيلي لأننا في ذلك نؤمن هامش المعلومات العسكرية والإجتماعية، بالإضافة الى ذلك نحن نقوم بضرب العدو وقطع يده من الوصول الى داخل مجتمعاتنا.
الاحتلال معسكر متقدم للولايات المتحدة الأميركية داخل المنطقة
الى العلاقة بين كل من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني في هذه القضية، وكيف أن الإسرائيليين يعتبرون أنفسهم عيون وآذان الأمريكيين في المنطقة، بناءاً على ما قاله رئيس الاستخبارات العسكرية الصهيونية السابق يوري ساغي، إنتقلنا في الحديث لمعرفة عمّا إذا كان ما يقوم به الكيان الإسرائيلي لأجل أميركا فقط، وفي هذا يرى الحج علي بأن الكيان الصهيوني يعتبر معسكراً متقدماً للولايات المتحدة الأميركية داخل منطقتنا وهذا هو الهدف من انشائه، لذلك فإن المعلومات التي يحصل عليها الموساد الإسرائيلي لا تُقدم فقط للولايات المتحدة الأميركية بل حتى لأصدقاء هذا الكيان في الإتحاد الأوروبي، ولكن علينا أن نعلم بأن العدو الإسرائيلي وصل الى درجة عالية من الخساسة، فقد كُشِف أنه يقوم بالتجسس حتى على حلفائه بما فيهم رئيس فرنسا ماكرون، عندما أثيرت قضية التجسس الإسرائيلي الشهير بيغاسوس، والذي يبلغ سعر النسخة الواحدة واحد مليون دولار، وأُثبت أن الصهاينة كانوا يزرعون هذه البرامج التجسسية في هواتف حتى حلفائهم وليس فقط أعدائهم، لذلك فإن الكيان الإسرائيلي الخسيس يملك التكنولوجيا الحديثة للوصول الى الهواتف المحمولة لجميع الخصوم والأعداء والحلفاء، ورغم أنه يتعاون مع اميركا ويقدم لها المعلومات، فهو في نفس الوقت يتجسس عليها، لأنه يريد أن يضمن أن يكون موقف الولايات المتحدة الأميركية معه دائماً وليس ضدّه ولا يوجد تلكّوء أو تباطئ في دعم الكيان الصهيوني، لذلك هذا الكيان المحتل يتجسس على كل شيء حتى على اليهود في الداخل الفلسطيني المحتل.
الجاسوس اليوم يمارس مهمة نشر الشائعات
حتى بعد الإستغناء او عدم توظيف جواسيسه من الجنسية الإسرائيلية، لم يغلق الكيان الصهيوني هذا الملف، بل لا زال حتى اليوم يزرع شبكات مختلفة من الجواسيس المتنقلين التي تعمل لصالحه، وفي هذا يقول الحاج علي بان سوريا بعد الخبرات التي راكمتها وجمعتها في هذه القضية، وصلت الى مرحلة عالية من النجاح، فحتى الآن كشفت سوريا العديد من الشبكات التي تتعامل بطريقة أو بأخرى مع الخارج أو مع اطراف معادية لسوريا وتحاول نشر الشائعات في داخل المجتمع السوري، وهذا نوع آخر من الجاسوسية، فالجاسوس اليوم لم يعد ينحصر بمهمة واحدة فقط وهي "التجسس" أو "الحصول على المعلومات الأمنية والعسكرية والإجتماعية والثثقافية والإقتصادية الهامة التي تهمّ العدو"، بالعكس الجاسوس اليوم يمارس مهمة نشر الشائعات من أجل احباط الروح المعنوية لدى الجماهير، وهذا ما تعرضت له سوريا في الفترة الأخيرة ابّان العدوان عليها بشكل كبير، واستطاعت أجهزة الأمن السورية بفضل التعاون مع الشرفاء الوطنيين من تتبّع هؤلاء وإلقاء القبض على شبكات كبيرة جداً تعمل على احباط المواطنين وتقويض عزيمتهم وإفقاد ثقتهم بحكومتهم وجيشهم، لذلك طالما أن سوريا في حالة عداء مع الولايات المتحدة الأميركية وترفض سياساتها وطالما أن الكيان الصهيوني يرى سوريا عدواً وبالتالي هي ارض خصبة يحاول العدو نشر جواسيسه في شتى المجالات وليس فقط في مجال جمع المعلومات.
أجهزة الأمن السورية تلقي القبض على شبكات كبيرة
ويختم المحلل السياسي مهند الحاج علي بأن رغم كل محاولات العدو الإسرائيلي للإيقاع بسوريا ومحاربتها فإن أجهزة الأمن السورية يقظة دائماً وتراقب وعينها واعية وحاضرة على كل هؤلاء، وبين وفترة واخرى نسمع أن سوريا استطاعت ان تلقي القبض على أفراد أو شبكات يعملون في هذا الإطار واعتقد أنه في الفترات الأخيرة هناك ندرة وقلة من هذه الأخبار، ما يعني وصلنا الى هامش معين من الأمان، ولا بدّ من القول أنه لا يوجد مجتمع يستطيع أن يحمي نفسه مئة بالمئة من الجاسوسية ولكن عندما تحقق نسبة مرتفعة من القبض على هكذا الشبكات هذا يُحسب للجيش العربي السوري ولأجهزتهم.