أثر حربَي تموز والعصف المأكول في الجيش الإسرائيلي
أيمن الرفأتي
كاتب ومحلل سياسي
لا شك في أنَّ حرب تموز ومعركة العصف المأكول كانتا، بالنسبة إلى المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بداية لنقلة نوعية في القدرات والأداء والأدوات، إذ إنّ قدرتيهما على مواجهة جيش الاحتلال ومنعه من تحقيق النصر، وانتزاع صور متعدّدة للنصر عليه، كان لهما عميق الأثر في جمهور المقاومة، الذي بات أكثر تشجعاً على قتال كيان الاحتلال، بينما جمهور الاحتلال، الذي يقابله، بات أكثر شكاً وتخوّفاً بشأن مستقبل "دولته" وأقل دافعية إلى القتال.
التطورات الكبيرة، التي حصلت عليها المقاومتان اللبنانية والفلسطينية بعد هاتين الحربين، باتت تمثل هاجساً ورادعاً لجيش الاحتلال، الذي أصبح يدرك أن الحرب لم تعد أمراً سهلاً، وأنّ تبعاتها باتت أكبر من الإنجازات التي يمكن تحقيقها. ونجحت هاتان الحربان في إفقاد جيش الاحتلال روح المبادرة المباغتة، التي كانت سمته الدائمة في الاعتداءات وشنّ الحروب. أمّا على مستوى الدافعية إلى القتال، فأدّت حربا تموز والعصف المأكول، على نحو تراكمي، إلى تغيير في طبيعة الجندي الإسرائيلي، الذي بات يخشى المواجهة ويتهرّب منها، لأنّه بات يدرك أنّ المقاوم الذي يواجهه متمرّس ومدرَّب، ولا يخشى القتال أو الموت، وأنَّ المخاطر أصبحت عالية جداً، وأنَّ فرص قتله أو إصابته أو أسره باتت خياراً مُرَجَّحاً، وقابلاً للتنفيذ.
وعكست المؤشرات الأخيرة، التي كشفها باحثون في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، تراجعاً كبيراً في الدافعية إلى التجنيد في جيش الاحتلال، إذ بلغت أقل من 50% خلال العام الحالي، وهو انخفاض كبير مقارنة بما سجّلته في عام 1990 حين وصلت إلى أكثر من 74%، وفي عام 2020 حين بلغت قرابة 64%. وأرجع المعهد هذا التراجع إلى زيادة نسبة المتدينين الذين يرفضون التجنيد في جيش الاحتلال، بالإضافة إلى تهرّب أعداد كبيرة من عملية التجنيد عبر اختلاق أعذار متعددة.
من ناحية ثانية، كان الجيش الإسرائيلي يعتقد، في حرب تموز، أنّه قادر، عبر استخدام سلاحَي البر والجوّ، على حسم المعركة، لكنه، بعد 33 يوماً من المواجهة، أدرك أن ما كان يفعله سابقاً بات شيئاً من التاريخ، وأنّ الكمائن والأسلحة المضادّة للدبابات وللقوات البرية باتت أكثر فتكاً وخطراً. وعليه، فإنّ الاستمرار في استخدام مثل هذه السلاح سيكون ذا تكلفة عالية جداً.
ولعلّ أبرز تأثير في جيش الاحتلال خلال هذه المواجهة كان إدراكه أنّ موازين القوى تغيّرت، وأنَّ القوى، التي يُسمِّيها الاحتلال بـ"اللا دولانية"، باتت أكثر قوة وقدرة على القيام بدور وتكتيكات عسكرية تكسر تفوق جيشه، بل لديها من الأساليب القادرة على قلب الصورة داخلياً وخارجياً في وجه كِلا المستويين السياسي والعسكري في كيان الاحتلال.
أمّا في حرب العصف المأكول ضد قطاع غزة في عام 2014، فتأكّد لدى جيش الاحتلال، بصورة كاملة، أنّ سلاح البر لم يعد فعَّالاً، ومخاطر استخدامه عالية جدّاً. وأدّت عمليات الصد والدفاع، التي نفّذتها المقاومة لخطة العدو بالهجوم البري داخل القطاع خلال المعركة فيما يُسمّى عسكرياً "الهجوم الجبهي"، إلى تغيير في تفكير القيادة العسكرية بخصوص خطط استخدام الذراع البرية وقدرتها على الحسم، وإلى تغيير واقع المعركة كما كان في السابق، وبات الاعتماد على هذه الذراع بعد العملية مرتبطاً بعدد من العوامل الاضطرارية في الاستخدام العسكري.
لقد أدّت معركة العصف المأكول، في درجة أساسية، إلى إحداث تغييرات كبيرة في استراتيجية الجيش الإسرائيلي، فلم يعد سلاح البر سلاح حسم، وبات التفكير في تطوير جيش ذكي يقاتل عن بُعد من دون أن يكون هناك التحام بين قوات الجيش والمقاومين.
في المحصلة، فإنَّ حربَي تموز والعصف المأكول حملتا تغييرات استراتيجية لدى المقاومة في مواجهة العدو، فلم يعد في إمكان جيش الاحتلال حسم معركة، حتى إن استمرت 33 يوماً، كما حدث مع لبنان، أو 51 يوماً، كما حدث مع غزة. وهذا الأمر غيّر تكتيكات الجيش، لكنهّا لم تُوجد حلّاً للمعضلة. والأخطر أنَّ هاتين الحربين كانتا نقطة تحول في تطوّر قدرات المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، اللتين باتتا تمثلان تهديداً وجودياً لكيان الاحتلال ضمن استراتيجية الجبهات المتعددة.