قصيدة «نزار قبّاني» التي أشعلت الحرائق (2)
على إثر هذا النقد الذي فاق حدّه الطبيعيّ وأساليبه المنطقيّة، بعث نزار قبّاني رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، في 30 تشرين الأوّل/أكتوبر 1967 بيروت، يشكو إليه فيها ما يتعرّض له من قمع السلطات الرسميّة في مصر، الذي كان ذروته منع دخوله إلى الجمهوريّة، وقال فيها: "إنّي لم أخترع شيئاً من عندي، فأخطاء العرب النفسيّة والسياسيّة والسلوكيّة مكشوفة كالكتاب المفتوح"، وإنّه "لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له".
كما أوضح نزار أنّ ما تعرّض له أبعد من قضيّة حملة تنتقد اسمه وشعره، بل "القضيّة هي أن نحدّد موقفنا من الفكر العربيّ. كيف نريده؟ حرّاً أم نصف حرّ؟ شجاعاً أم جباناً؟ نبيّاً أم مهرّجاً؟".
على إثر هذه الرسالة، دخلت «الهوامش» - الهويّة الشعريّة الجديدة لنزار - إلى مصر بقرار من جمال عبد الناصر، وصارت كلّ نسخة مصريّة منها تبعث عشرات النسخ عربيّاً، وانقسمت الأوساط الاجتماعيّة بين مؤيّد ومعارض؛ لأنّ ما يميّزها هو أنّها لا تبكي النكسة، وإنما تعرّي أسبابها علناً وتعدّد مستوياتها، وتتّخذ من كلّ كلمة رصاصة وبندقيّة.
ما دخلَ اليهودُ مِنْ حدودِنا
وإنّما...
تسرّبوا كالنملِ... مِنْ عيوبِنا
(...)
كلّفَنا ارتجالُنا
خمسينَ ألفَ خيمةٍ جديدة.
سوسيولوجيا النصّ الشعريّ
رغم الاعتراف بالخصوصيّة الفنّيّة للعمل الأدبيّ، إلّا أنّه لا يمكننا أن نفصله عن المجتمع ومجريات الواقع والتاريخ، وعن علاقته بمختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة. وتبعاً لجورج لوكاتش في نظريّاته حول العلاقة بين الأدب والبيئة والمجتمع بما يتضمّنه من علاقات وطبقات اجتماعيّة، نرى في قصيدة «الهوامش» انعكاساً لواقع الحالة الاجتماعيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة للسياق الزمانيّ والمكانيّ للحدث؛ ممّا يستدعي طرح قراءة سوسيولوجيّة تكشف عن علاقة بنية نصّها الشعريّ بالبنية الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة، بما أنّ "علم اجتماع النصّ يهتمّ بمسألة معرفة كيف تتجسّد القضايا الاجتماعيّة والمصالح الجماعيّة، في المستويات الدلاليّة والتركيبيّة والسرديّة للنصّ، في محاولة أوّليّة تقرأ هذا الخطاب الشعريّ المعارض والمقاوم على ضوء السوسيولوجيا، يمكن أن نكشف عن ثلاثة مستويات أو محاور للتفسير الاجتماعيّ، هي: أوّلاً؛ في وصف علاقات السلطة والقوّة، اللتين نقلهما النصّ في صورتين هما: حالة الاستبداد وقمع الرأي في الدول العربيّة، ونظرة الغرب الدونيّة إلى بلاد الشرق.
لو أحدٌ يمنحني الأمان
لو كنتُ أستطيعُ أنْ أقابلَ السلطانْ
قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ
كلابُكَ المفترساتُ مزّقتْ ردائي
ومخبروكَ دائماً ورائي...
عيونُهم ورائي... أنوفُهم ورائي... أقدامهم ورائي.
في لغة قصيدةٍ استدعتها مخيّلة نزار من وقائع اجتماعيّة وسياسيّة، تجلّت النزعة السياسيّة المعارضة والناقدة لحالة كبْت حرّيّة التعبير، التي تُوَصِّف الصراعات الداخليّة للأمّة العربيّة في علاقة الشعب بالأنظمة السياسيّة التي تقمع رأيه، وتفرض عليه المراقبة والعقاب، فتأسيساً على شكل هذه العلاقة ومحدّداتها يرى نزار أنّ أحد الأسباب الكامنة وراء الهزيمة يعود إلى تاريخ هذه العلاقة، التي حضرت تداعياتها السلبيّة في ساحة الحرب، وأوجز ذلك بأبيات:
يا سيّدي السلطانْ
لقد خسرتَ الحربَ مرّتين
لأنّ نصفَ شعبِنا... ليسَ لهُ لسانْ / ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟
وفي لغة نزار الاحتجاجيّة على الحالة الفكريّة والثقافيّة للشعوب العربيّة، خاطب القرّاء بضرورة التطوّر والتغيير، وإثبات الذات العربيّة وترسيخ استحقاقها؛ فطالب بالانفتاح على الغرب (بلاد الثلج في وصفه) الذي لا يعترف بهم، ويهمّش وجودهم؛ فوفقاً لضرورة الوعي بمسبّبات الاستعمار والهيمنة الغربيّة، قال:
جرّبوا أنْ تقرأوا كتابْ
أنْ تكتبوا كتابْ
أنْ تزرعوا الحروفَ، والرّمّانَ، والأعنابْ
أنْ تبحروا إلى بلادِ الثلجِ والضبابْ
فالناسُ يجهلونَكم... في خارجِ السردابْ
الناسُ يحسبونَكم نوعاً مِنَ الذئاب.
ثانياً؛ في الكشف عن القيم والعادات ومشكلات الأمّة العربيّة وعيوبها؛ إذ يبرز البُعْد الاجتماعيّ لقصيدة «الهوامش»، من خلال وصف الشاعر الخرابَ الداخليّ الذي تعيشه الأمّة العربيّة.
يتبع...