كتابات رافقت الطلقات الأولى للمقاومة
ولاء حمّود
عندما دوّى صوت الطلقات الأولى في خلدة عام 1982م، وهي تصدّ هجمات الصهاينة وتتصدّى لاجتياحهم، ارتفع معها "صرير" أقلام جديدة، واكبت العمل المقاوم؛ فكتبت بالحبر ما كُتب بالدم.
يسعى هذا التحقيق، الذي نُشر في مجلة بقية الله للإضاءة على بدايات أدب الجهاد والشهادة، في محاولة لتلمّس بدايات الخُطى وخُطى البدايات، مع كتابات مقاومة طبعت ملامحها في الوجدان. وإليكم تجربتين من تجارب عديدة في أدب المقاومة، الأولى تحدّثنا عنها الكاتبة فاطمة برّي بدير، والثانية يُعرفنا عليها الأستاذ حسّان بدير.
قبل البداية
بدأتُ تحقيقي مع أولى الكاتبات اللواتي نذرنَ قلمهنّ لهذه المسيرة. على صفحات أسبوعيّة العهد التقيتها، بعد أن كنت أنتظرها أسبوعيّاً. كان مقالها المضمخ بعبير الشهداء الأوائل، يجذبني كثيراً.
فاطمة برّي بدير، تقول عن ذكرياتها الأولى مع المقاومة قبل نطق القلم: "في نهاية الثمانينيّات، كنت تلميذة في المدرسة، والمقاومة في سنواتها الخصبة. أتذكّر حصار الإقليم وأحداث الجنوب ومعركة ميدون في البقاع، وأيضاً مجزرة (فتح الله) في منطقة البسطا، والعمليّات النوعيّة في سجد وبئر كلّاب والحقبان. مصدر معلوماتنا الوحيد آنذاك كان جريدة العهد، التي كانت توزَّع في بيئة خاصّة وضيّقة جدّاً؛ لذلك وضعت حينها هدفاً نُصب عينيّ، وهو أنّني سأكتب في هذه الصحيفة يوماً ما، وقد تحقّق ذلك فعلاً".
صعوبات الطريق
تُعلن فاطمة أنّ تلك الأيام كانت الأصعب، تقول: "العائق الأكبر والأساس والأهمّ، والذي قد لا تفهمه أجيال اليوم، هو العمل السرّيّ؛ فالمقاومة كانت حالة غامضةً وجديدة على المجتمع اللبنانيّ، الذي عانى لسنوات من الحرب الأهليّة، فكان من الطبيعيّ أن يتحكّم الخوف في سلوك الأهل وتعاطيهم مع أبنائهم. فأنا على سبيل المثال، تعرّفت إلى الضاحية الجنوبيّة حينما بلغتُ 18 عاماً، وبقيتُ أتردّد إليها لأكثر من سنتين دون علم أهلي، وعندما علموا بذلك، مُنِعت من الذهاب إلى الجامعة لشهور عديدة. تلك كانت أخطر المعوّقات يومها: أن تؤيّد المقاومة بصمت، وتذهب إلى المسجد سرّاً، وتشارك في يوم القدس شبه متنكّر؛ كي لا يعرف أهلك أنّك تنتمي إلى بيئة المقاومة!
ذروة الصعوبات
تستحضر فاطمة تجارب الماضي إلى الحاضر، فتقول: "في بداية التسعينيّات، كنت قد أصبحت عضواً رسميّاً في جريدة العهد، وكنت الفتاة الوحيدة والأولى في هذا الميدان، كُلّفت بتحرير مادّة كاملة وكتابة النصوص الأدبيّة المتعلّقة بالنهج المقاوم، ولم أبلغ العشرين من عمري بعد. وما زلت أذكر أنّنا كتبنا عن المقاومة في فلسطين ومصر، مثلما كنّا نكتب عن المقاومة في لبنان. لقد كتبت نصوصاً عن رموز العمل المقاوم في مصر وفلسطين ضدّ الظلم. كما أنّنا عملنا على ملفّ بخصوص إصدار الإمام الخمينيّ (قدس)، فتواه الشهيرة ضدّ سلمان رشدي. لذلك، إذا أردتُ تقييم تلك التجربة الآن، أقول: إنّ ذلك كان عملاً جبّاراً؛ لأنّنا كنّا نعمل من دون مقوّماتٍ؛ فالإنترنت لم يكن جزءاً من حياتنا اليوميّة، ولم نكن نعرف (Google) ومحرّكات البحث العجائبيّة، ولم يكن الهاتف الخلويّ موجوداً، بل كنّا نجتاز مسافات بعيدة من أجل لقاء شخص يخبرنا معلومةً ولو بسيطة!
أشعر بالفخر والتميّز والحظوة الإلهيّة الكبيرة؛ لأنّني خضتُ تلك التجربة في ظلّ تلك الظروف الصعبة".
النصوص الأولى
بنظرة تحمل الشغف إلى الماضي، تستذكر فاطمة أولى نصوصها، تقول: "لا أستطيع تذكّر النصّ الأوّل تحديداً، بل أتذكّر كتابات أول جملة: عن الشيخ راغب حرب، وعن الاستشهاديّ الشيخ أسعد برّو الذي أجريت حواراً مطوّلاً مع زوجته، وعن الشيخ علي كريّم، وعن استشهاد السيّد عبّاس الموسويّ وزوجته وطفله (رضوان الله عليهم جميعاً)".
وتتدارك فاطمة ذكريات طفت فجأة من أعماق الزمن البعيد على صفحة الحاضر، فتقول: "تذكّرت! لقد كان نصّي الأوّل عن الحرّ العامليّ، يومها التقيتُ أخته وصهره، ففوجئت بقلّة المعلومات عن سيرته الجهاديّة، لكنّهما أرشداني إلى حقيبة ثيابه، فتحتها، فوجدت داخلها جواز سفر وملابس، قيل لي إنّه أوهم المقرّبين منه باستعداده للسفر، فلمعت أمامي فكرة القصّة؛ لقد كان سفراً إلى سماءٍ بلون الشهادة والفخر والإباء".
أدب المقاومة يستحق
تجد فاطمة اليوم أنّ الكتابة على ضفاف الشهادة والشهداء، وعن ميادين الجهاد والمقاومة أصبحت "عملاً مقبولاً ومطلوباً، لا بل مدعوماً، بعكس تلك المرحلة السرّيّة التي قاسينا فيها ما قاسيناه. والأمر اليوم لم يُعد حكراً على الكتابة فقط؛ إذ تمتلئ حياتنا ببرامج تلفزيونيّة وأفلام وثائقيّة ومهرجانات عالميّة، تتحدّث جميعها عن المقاومة التي صارت اليوم محرّك العالم وملهمة الشعوب".
وعن طموحها حول أدب الجهاد والمقاومة، تؤكّد فاطمة: "أطمح إلى أن يصل أدب المقاومة والجهاد والشهادة إلى حيث لم يصل بعد، وأن يصبح مقروءاً ومعروفاً في المجتمعات الأخرى؛ لأنّنا إلى غاية اليوم، نتوجّه فقط إلى مجتمعاتنا ومناطقنا وأهلنا وأقاربنا ومعارفنا. أطمح إلى أن يصبح أدب المقاومة الإسلاميّة في لبنان في مستوى موازٍ لأعمال غسّان كنفاني، أو نتاج يوسف السباعي، أو توفيق عوّاد، أو سحر خليفة، التي كتبت عن تاريخ كامل من سنوات المقاومة في فلسطين، وغيرهم الكثير".
الأستاذ حسّان بدير، أحد أقلام الطلقات الأولى للمقاومة : معايشة قلب الحدث
يبتدئ الأستاذ حسّان حديثه بالاستشهاد بقول للسيّد عبّاس الموسويّ، فيقول: "قال السيّد عبّاس لي يوماً: قصص الشهداء تعطينا دروساً في القيم والأخلاق النبيلة، وتحيي نهج الإمام الحسين (ع) ". ثمّ يضيف: "لم تكن كتاباتي عن الشهداء وقصصهم محض صدفة، بل كانت ردّة فعل على واقع عايشته منذ أن رأيتُ في العام 1978م مشاهد الاجتياح الصهيونيّ الأوّل لقريتي برعشيت وقرى جبل عامل، بما عُرف يومها بعمليّة الليطانيّ، وكذلك معاصرة الاجتياح الصهيونيّ الثاني لبلدتي ولكلّ لبنان في العام 1982م، بما عُرف بعملية سلامة الجليل. وفي كلا الاجتياحين، شاهدتُ عن قرب فعل القتل والإجرام للجنود الصهاينة، ودخول آلياتهم إلى قرانا. كما أنّني عايشتُ عن قرب فعل الأسر والقمع لأبناء بلدتي وبقيّة القرى والمدن، ما حفر في ذاكرتي صوراً موجعة عن معتقلات أنصار والخيام في جنوب لبنان، مضافاً إلى معتقلات عتليت والجلمة وزنازينها في فلسطين المحتلّة، وغيرها الكثير.
لم أكن قد تجاوزت السابعة عشرة من عمري، عندما سمعتُ عن عمليّة نسف مركز الحاكم العسكريّ في صور صبيحة 11 تشرين الثاني 1982م، ثمّ تتالت العمليّات ضدّ القوّات الأجنبيّة الغازية لبيروت؛ فكان يعتريني عند كلّ عمليّة شعور بالفرح والسكون القلبيّ العارم بالفخر، حتّى أنّني رفعت يوماً صوت المذياع، حيث كنت أعمل في دكّان أمّي (رحمها الله)، في ساحة الضيعة، لأُسمع الناس بيان المقاومة عن إحدى عمليّاتها، فنبّهني أحدهم أنّ للعملاء آذاناً في الساحة، لكنّني لم أكترث للأمر، فكلّ ما كان يعنيني أنّ ثمّة رجالاً عظماء من أبناء قرانا بدأوا بإسقاط الخوف الذي كان يسكننا ويسكن عقولنا وأبصارنا".
أمّا عن نقطة التحوّل في حياة الأستاذ حسّان، فيقول: "في أحد الأيّام، أعلن أحد الإخوة من مسجد القرية عن استشهاد شيخ من بلدة جبشيت اسمه (راغب حرب)، فأخذتني روحي وتفكيري إلى طينة هذا الشيخ، وعرفنا عندها أنّ ذلك الدم قد أسقط الخوف عن مساجدنا ومحاريب صلاتنا. عندها، قرّرتُ ترك القرية والرحيل إلى بيروت بحثاً عن هؤلاء الفتية وتلك المواطن التي سكنتني، وأشعلت في أصابعي جمرة السعي نحو الكتابة والتعبير".
النصّ الأوّل
كيف كانت بدايات الكتابة؟ حول ذلك يقول الأستاذ حسّان: "كان ذلك في بيروت خلال عملي في وكالة صحافة عربيّة، عندما أوكلت إليّ مهمّة الكتابة عن الاستشهاديّ عبد الله عطوي (الحرّ العامليّ)، الذي نفّذ عمليّة استشهاديّة في قافلة للاحتلال الصهيونيّ في بلدة كفركلا في 19 تشرين الأوّل 1988م. يومها، اعتبرت أنّ الله عزّ وجلّ أكرمني بأن أتاح لي، بعد صبر وشوق، البدء بالكتابة عن عالم الشهادة والشهداء. وقد اختزن نصّي الأوّل ذلك صوراً وحكايا كانت تحتاج إلى مساحات طويلة للكتابة عنها".
وتحقّق الحلم
"ساقتني الصدفة في العام 1988م إلى باب عظيم وصحيفة الحلم، صحيفة العهد؛ فبسبب كتابتي لنصّ عن أمّي القاطنة قريتنا المحتلّة، عرض عليّ رئيس التحرير يومها الكتابة في الصحيفة، وقد كان ذلك الطلب بمنزلة الحلم الذي لم أكن أتوقّعه، وأنا الذي كنت فتى ينتظر صحيفة العهد في ساحة القرية بعد العام 1985م ليمتلئ منها وبها عشقاً وقوّة وعزّة وسؤدداً.
ومنذ ذلك الحين، انضممتُ بكلّ فخر إلى فريق صحيفة المقاومة الأولى، وكان من كرامات التشريف لي أن أوكلت إليّ كتابة قصّة أسبوعيّة عن شهيد، وكان لذلك آثاره المباركة على حياتي وسيرتي ونمط تفكيري وقناعاتي ومعايشتي وصداقتي للقافلة الأولى من القادة والمقاومين والشهداء، من الشيخ أبي ذر إلى السيّد عبّاس الموسويّ وصلاح غندور، إلى عشرات الشهداء والمقاومين الذين عشت معهم وعايشتهم حتّى كتابة هذه السطور".
مسؤوليّة كبرى
وحول إذا ما واجه أيّ صعوبات ومعوّقات في عمله، يجيب الأستاذ حسّان: "لم تكن ثمّة معوّقات بالمعنى العمليّ؛ إنما كنت أشعر بثقل المسؤوليّة في الكتابة عن كلّ شهيد، لأنّ عمل المقاومة كان شديد السرّيّة، وكان الكشف عنه يحتاج إلى جهد مضاعف؛ فالأب والأم لم يكونا على دراية بالعمل المقاوم لابنهما، وأيضاً الزوجة لم تكن تعلم عن عمل زوجها، إلّا ما شعروا به من علامات وتصرّفات لافتة كانت تدلّ على أنّ ثمة خلقاً دينيّاً صافياً وحراكاً اجتماعيّاً خفيّاً يُعمل به مع ثلّة من الشباب والأصدقاء. لذلك، كان استحضار المعلومات والحكايا عن الشهيد لكتابة قصّة ما دونه ضرورة الغوص في خزائن الشهيد ودفاتره، وكذلك ملاقاة صحبه في المسجد أو القرية، مضافاً إلى جيرانه ومن عايشه عن قُرب.
كانت كتابة القصّة عن الشهيد في البدايات الأولى لإعلام المقاومة بمنزلة الإفصاح عن فتية وشبابٍ من زمن جديد، شعاراتهم امتدّت من كربلاء (هيهات منّا الذلّة) و(لبّيك يا حسين) إلى واقعنا الحاليّ مع شعار: (إسرائيل شرّ مطلق)، الذي أطلقه إمام المقاومة السيّد موسى الصدر؛ فهم شباب عشقوا إمام عصرهم الإمام الخمينيّ العظيم قدس سره، فجسّدوا زمن كربلاء وأعادوه إلى ساحات المواجهة، رفضاً للظلم ونصرة للحقّ".
"قبس في تكويني الفكريّ"
يرفض الأستاذ حسّان تسمية كتاباته وقصصه حول المقاومة وشهدائها بالتجربة، بل يقول: هي "قبس تكويني فكريّ، والمخزون الإيمانيّ لعقلي؛ إذ كنت كلّما شعرتُ بالتعب والحزن، أزور عائلة شهيد، فأقطف الدرر عن دوالي ألسنة الأهل والأحبّة وصدورهم، لأغادر على مضض، وقد رفدني شعور بالاغتسال الروحيّ من أدران الدنيا ومتاعبها، فأختلي إلى نفسي وأوراقي، ليس للكتابة إنّما لصياغة ثقافة وأدب نقيّ لقارئ ينتظر صدور صحيفة العهد كي يبحر على أجنحة أوراقها إلى عالم شبيه بأصحاب الإمامين عليّ والحسين (ع) في معاركهما التي أسّست لمنطق الحقّ والعدل والثورة على الظالم ونصرة الدين بالموقف والدم الطاهر".
أجر العملين
يذكر لنا الأستاذ حسّان قصّة لا تزال حاضرة في ذاكرته، خلال واحدة من لقاءاته بسماحة السيّد عبّاس الموسوي، فيقول: "زرته يوماً، وقد استقبلني كعادته استقبالاً أبويّاً، فأدخلني بخلقه النبويّ إلى مكتبه الخاصّ، وأجلسني على كنبة إلى جانبه، وقال لي: (سلامتك، حاسّك تعبان، خير مريض شي؟)، قلت له وقد لمح الحزن في عينيّ: (سماحة السيّد، نحن الإعلاميّين نكتفي باستقبال الشهداء والكتابة عن قصصهم، بينما غيرنا من المجاهدين يكتبون بدمهم ما نكتبه بالحبر)، فنظر إليّ بحنوّ، ووضع كفّه فوق كفّي كوالد يخفّف عن ولده، ثمّ قال: (اعلم أنّ في حزنك ونيّتك وعملك قد نلت الأجرَين: أجر النيّة في حمل البندقيّة كإخوتك المقاومين، وأجر الكتابة عنهم وعن قصصهم التي ستجعل من دمهم دروساً للقيم والأخلاق النبيلة، وإحياءً لنهج الإمام الحسين (ع) وثقافته في كربلاء، فأكمل عملك ولا تحزن)".
فلتحيا تلك الأقلام
يطول الحديث عن تجربة الكتابة في أدب المقاومة، ولا تتّسع لها صفحاتنا هذه، تجربة عابقة بنبض قلوب المجاهدين الوالهة لتحقيق النصر أو الشهادة. فلتحيا تلك الأقلام وصوتها الذي يشدو مع كلّ حرف وكلمة نشيد الحقّ والحقيقة.