«أوراق السجن»... قصّة نجاة (3)
رابعاً، ومن حيث المقولة الوطنيّة الجامعة، دشّن وليد في سنوات أسره التي قاربت على الأربعين، وباسل في سنوات أسره التي بدت كذلك، نماذج ملهِمة في تجاوز طائفيّة اليسار، وقبليّة اليمين، و "مياصة" الوسط.
أقام باسل في قسم أحمد سعدات، وحاضر في جامعة مروان البرغوثي، وقرأ من مكتبة إبراهيم حامد، وساجل باسم خندقجي، وفسّر أحلام ثائر حمّاد. لذا؛ لا غرابة أن جاءت مذكّراته مرآة للصراع بين حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ، والحركة الصهيونيّة ودولة مستوطنيها، ولما تبقّى للفلسطينيّين من صوت يحمل مقولتهم الوطنيّة العفيّة لا يزال موجوداً في "الجغرافيا السادسة"، التي لا سيادة فيها إلّا لإرادة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأسيرة، ومقولتها الجامعة.
أخيراً، ومن حيث قصّة هاتين الوثيقتين، وعلى وفرة من قصص النجاح في فلسطين المُؤَنْجَزَة، فهي قصّة نجاة لم تتورّط في ادّعاء النجاح؛ فالوثيقتان، رسومات وليد وكلمات باسل، تشكّلان مدوّنة أصليّة وأصلانيّة في وصف التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ للسجن. كما أنّ من المفارقة تمكّن الوثيقتين من النجاة من نظام الرقابة الصهيونيّ، الذي تحضر فيه كاميرات المراقبة على نحو بغيض.
كانت شاشات كاميرات المراقبة في "سجن هداريم" محلّ المخيال الفنّيّ لوليد، وهو الأسير الذي لا يملك إلّا الحصانة الوطنيّة من صهر الوعي، ومن مكاسب ملهى الإغواء والإغراء. وأمّا شاشات المراقبة في "سجن كتسيعوت"، فكانت محلّ المخيال الكابوسيّ الذي لازم باسلاً في معموديّة أسره، رغم حصانته التي أفسدتها عروبته. لكن يبقى السؤال: هل كان وليد سيضيف مقطعاً لغرفة زيارة الأسرى إلى "إكساته" الأربعين، لو لم تصادر إدارة السجن رسوماته؟
هذا سؤال برسم وليد الذي توقّف عن الرسم والكتابة منذ أن هزل جسده، واتّسع القيد، حرفيّاً على معصمه، ومنذ أن تواطأ المرض مع إدارة السجن على جسده.
تحرّر باسل بعد انقضاء محكوميّته، ومن محاسن القدر أنّه بيننا الآن. أمّا وليد فكان من المفترض أن يكون يوم الجمعة 24 آذار/مارس 2023 هو اليوم الأوّل في حرّيّته، بعد أن قضى في الأسر الصهيونيّ 37 عاماً. لكنّه يقبع الآن في "مستشفى سجن الرملة"، بعد أن استُؤْصِل جزء كبير من رئته اليمنى، فضلاً على استفحال مرض السرطان في نخاعه.
حارب وليد دقّة وحيداً ظلم النظام الصهيونيّ في حكمه الأوّل في عام 1987، وفي تحديد فترة المؤبّد في عام 2012، وفي تمديد حكمه لسنتين إضافيّتين في عام 2018 - بسبب قضيّة الهواتف النقّالة التي حاول باسل إدخالها - وفي رفض عشرات الالتماسات. كما حارب، وحيداً، خذلان الحركة الوطنيّة في استثنائه من صفقات التبادل والإفراج، أربع مرّات، وخذلان التذكّر.
وهبنا وليد أعمق ما يمكن أن يُكْتَب في تجربة السجن: سيرة ورواية ونظريّة. وها هو يحارب، وحيداً، اللهمّ من رفقة زوجته المناضلة سناء سلامة و "حملة إطلاق سراح الأسير وليد دقّة"، يحارب استفحال المرض في جسده المقاتل، واستفراد العدوّ في جسد الأسرى.
ربّما تأمّل وليد مقام رأس الإمام الحسين (ع) الذي في الجوار، حين كان في "مستشفى برزيلاي" في عسقلان المحتلّة، وربّما يتأمّل الآن طيف الخضر على حصانه وبيده الرمح الذي سيصرع به التنّين في اللدّ المحتلّة التي في الجوار، وربّما تأمّل مسار يوحنّا المعمدان الذي عمّد يسوع النبيّ قبل أن يدخل السجن، ويفقد رأسه حتّى يخلّص المخلّص الذي في القدس. هذه أسئلة برسمنا، رسمها وليد دقّة بالألوان، ورسمها باسل غطاس بالكلمات، وسجّلت قصّة نجاتها على أجساد أصحابها. لنُجب عنها على نحو جماعيّ، ولنكن مع وليد دقّة وجميع الأسرى المرضى، والأسرى الشهداء، والشهداء الأسرى من أنيس دولة إلى خضر عدنان.