فن المقاومة
«أوراق السجن»... قصّة نجاة (2)
دخل باسل السجن إثر محاولة تهريب هواتف نقّالة للأسرى؛ متأثّراً بمعاناة أمّهات الأسرى اللواتي فقدن القدرة على زيارة أبنائهنّ، وبخاصّة الراحلة صبحيّة - أمّ كريم يونس، والباقية فريدة - أمّ وليد دقّة. لم تشفع الحصانة البرلمانيّة لباسل غطّاس في زيارته إلى "سجن النقب" في 19 كانون الأوّل/ديسمبر 2016، بعد لقائه وليد دقّة، فصوّرته كاميرا المراقبة وهو يسلّم رزماً لأسير آخر، هو ممثّل المعتقل.
بدأت حملة الملاحقة والشيطنة الصهيونيّة لباسل وحزبه؛ فتنازل عن حصانته المخترَقة لأنّه عربيّ، واحْتُجِز لغرض التحقيق، واستقال من البرلمان، وواجه وزارة المحاكم الصهيونيّة والنيابة، ودخل السجن بعد نحو سبعة أشهر من فعلته "النكراء"، ودفع غرامة ماليّة عالية.
بعد سجنه بوقت قصير، توقّف باسل عن عدّ الأيّام، وصار "أسير عن جدّ"، يصف الأيّام ولا يَعُدّها. كتب باسل مذكّراته، لكنّها تعرّضت للمصادرة ثلاث مرّات: مرّة خلال النقل من "هداريم" إلى "نفحة"، ومرّة خلال إخراجها، ومرّة خلال محاولة إدخالها لإطلاع وليد دقّة عليها. لكنّه كان أكثر حظّاً من وليد؛ إذ تمكّن من استعادتها عن طريق المحكمة.
وبعد أربع سنوات أيضاً، تصلنا، اليوم، وثيقة باسل غطاس في كتاب مع مقدّمتين للأسيرين والقائدين الوطنيّين مروان البرغوثي ووليد دقّة، وقد تحلّل فيها باسل من الترتيب الزمنيّ لصالح ترتيب الزمن في أحد عشر فصلاً، تصف: الفورة، والبريد المتأخّر، والأوضاع الصحّيّة، وجامعة السجن، والبوسطة، والزيارات، والمناسبات الاجتماعيّة، والحياة الطبيعيّة، ومقتنيات المكتبة، وحكايات الرفاق، ويوم الحرّيّة.
يبرز السؤال بعد وصف الوثيقتين: كيف نقرأ الواحدة منهما قبالة الأخرى، تنافذيّاً أو طباقيّاً، شكلاً ومضموناً؟ كيف نقرأ رسم السجن بالألوان ووصفه بالكلمات؟ ثمّة وفرة في هذه المؤسّسة للمرئيّات وتأويلاتها، وللمقروءات وتفسيراتها، ولا شكّ في أنّ السجن لا يحتلّ مركز الصدارة فيها، ولن أحاول جعله كذلك، لكنّني سأكتفي بالإشارة إلى ستّة مفاتيح للقراءة.
أوّلاً، من حيث سبب الأسر، انضمّ وليد دقّة قبل أربعة عقود في عام 1983 إلى "منظّمة التحرير الفلسطينيّة"، تحت لواء "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين"؛ استجابة لصرخة امرأة على كومة جثث في مذبحة صبرا وشاتيلّا: "وينك يا الله".
آنذاك، وجد وليد نفسه يقاتل في سبيل توفير إجابة عن صرخة تلك المرأة؛ فإنّ الله يتجلّى في صورة مقاتل أحياناً، والمقاتل يتجلّى في صورة مخلّص لرفاقه الأسرى أحياناً أخرى. كان هدف وليد، في العمليّة التي حوكم عليها مع مجموعته الفدائيّة التابعة لإبراهيم الراعي، قبل أسره واستشهاده، كان تحرير الأسرى بالتبادل.
أمّا باسل فقد ناضل في صفوف "التجمّع الوطنيّ الديمقراطي"، الذي انضمّ إليه وليد بالمناسبة في عام 1996، دون أن يدير ظهره إلى "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين"، ووجد نفسه يقاتل في سبيل إحداث كوّة تواصل بين سكّان السجن الأصغر من الأسرى، وسكّان السجن الأكبر من أهاليهم. كان هدفه تحرير أصوات الأسرى، وقد عزّ تحرير أجسادهم.
ثانياً، من حيث وسيط وصف السجن، لم يحاول وليد بالرسم الانتقال من الزمن الموازي في السجن الأصغر إلى الزمن الاعتيادي "الاجتماعي" في السجن الأكبر، بل حاول نقل واقعه للّذين يقفون خارج عربة القطار الصدئة التي يُحْتَجَزُ فيها الأسرى.
لم يحاول باسل الذهاب في رحلة معاكسة من الزمن الاعتيادي إلى الزمن الموازي، لكنّه وجد نفسه هناك محاولاً كسر عزلة مَنْ حشرهم قيامهم بواجبهم الوطنيّ المقاوم، في عربة قطار علقت في نفق النسيان، وصار سكّانها هم "المنسيّين في الزمن الموازي"، كما عنون وليد مسرحيّته الشهيرة.
ثالثاً، من حيث إخراج تعبير "رفيق" من لعنة الابتذال، لم يتّخذ باسل ولا حزبه من وليد ورفاقه وإخوانه الأسرى رصيداً انتخابيّاً، بل ذهب حتّى النهاية في كسر عزلته، حدّ أنّه دخل الأسر في سبيل ذلك. ولعلّ في "كلمة" وليد التقديميّة للكتاب، وفي الفصل الخامس الذي كرّسه باسل لـ "البوسطة"، ما يشير إلى أنّهما لم ينقذا مفهوم "رفيق" فحسب من لعنة الابتذال، بل أنقذا مفهوم "رفيق القيد" من لعنة المجاملة أيضاً؛ حيث قُيِّدا معاً، وحرفيّاً، بقيد واحد في رحلة اليومين الطويلين، في "جهنّم البوسطة" من "سجن جلبوع" في بيسان المحتلّة، إلى "سجن رامون" و "نفحة" في صحراء النقب المحتلّة. كان باسل غطّاس رفيق وليد دقّة في القيد "حتّى العظم"، كما كان زكريّا زبيدي رفيق وليد دقّة في المرض "حتّى النخاع".
یتبع...