آفاق السياسة الخارجية الإيرانية في ضوء النظام العالمي الجديد
تتمة المنشور في الصفحة 1
ولكن بشكل أساسي من أدوات ناعمة ومواجهات مدنية، وهذا بالضبط يمثل "كعب أخيل" بالنسبة لنظام الهيمنة حيث يُعرّضه للخطر. تشكل المواجهة العسكرية تحالفًا حول نظام الهيمنة، وقد تم استخدامها كأداة الإجماع بين دول التحالف؛ لكن المواجهة بأدوات ناعمة مثل العقوبات التي تسببت في الانقسام والتشتت بين هؤلاء الحلفاء.
نتيجة للتطورات على الساحة الدولية والتحولات في مراكز القوى، تحاول جميع الحكومات لعب دور أكبر في تشكيل التطورات واكتساب مكانة جديرة في الساحة الدولية الجديدة. بدأت الحكومة الثالثة عشرة العمل بينما كانت هذه التطورات تشهد وتيرة متسارعة أكثر مما كانت عليه في الماضي، والتي لاتزال مستمرة حتى يومنا بلا هوادة.
إيران مصممة على لعب دور فعال في عملية تشكيل الآليات المتعددة الأطراف
تم الانتهاء من عملية الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون خلال الحكومة الثالثة عشرة، بعد سنوات من محاولات إيران للانضمام لهذه العملية. في نفس الوقت الذي تم فيه تنفيذ هذه المبادرة، تم أيضاً إدراج التعاون مع الدول الأعضاء في "بريكس" في أجندة السياسة الخارجية، من أجل توفير التنوع في الوصول إلى المرافق والأدوات الدولية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية والنقدية والمالية. وبالتالي، من خلال كونها عضواً في أكبر الآليات السياسية والأمنية والاقتصادية ضد الأحادية، فان إيران مصممة على لعب دور فعال ومهم في عملية تشكيل الهياكل والآليات المتعددة الأطراف.
تمتلك الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تضم حوالي 40٪ من سكان العالم، 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أن حجم التجارة في هذه المنظمة يصل إلى أكثر من 650 مليار دولار سنوياً. أحد الأسباب الرئيسية لانضمام الدول إلى هذه المنظمة المهمة هو مواجهة السياسات والإجراءات الأحادية للغرب، وخاصة أمريكا. وقد تركت هذه الإجراءات، وخاصة العقوبات الأحادية الجانب، آثاراً عالمية عميقة، بالإضافة إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فقد عرّضت أيضاً نظام التجارة العالمية للخطر.
مع تصعيد العقوبات والإجراءات غير المسبوقة مثل تجميد أصول البنوك المركزية من دول مختلفة، وصل انعدام الثقة في الهيكل المالي الغربي إلى أعلى مستوى ممكن، ودفع دول العالم إلى اتخاذ إجراءات وقائية ومضادة. على عكس ما يتوقعه الغرب، بدأ مشروع العولمة بـ"التدمير الذاتي".
في مثل هذه البيئة، لذلك فان العمل المشترك المنسق وتوفير الاستجابات الجماعية للتحديات والتهديدات الجديدة على المستوى الإقليمي يعتبر عملاً منطقياً تماماً. من وجهة نظر استراتيجية، اجتمع أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون حول فكرة "التنمية التقدمية والمستقلة" على ضوء الحقائق الجديدة على الساحة الدولية، ولم تفوّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذه الفرصة ودخلت هذا المجال بإرادة قوية وجادة.
في النظام العالمي الجديد، يمكن رؤية انتقال السلطة من الغرب إلى الشرق بشكل تدريجي وفي عملية ملحوظة. لقد فقدت أمريكا وأوروبا القدرة على إدارة التطورات الدولية كما كانت في السابق. على الرغم من أن الغرب لا يزال لديه العديد من الأدوات للتأثير على الاتجاهات والتطورات الدولية، إلا أن دولاً أخرى مثل الصين وروسيا وأعضاء "بريكس" والقوى الإقليمية، وخاصة في آسيا، تمكنت من الاستفادة من الفرص ولعب دور أكثر نشاطاً على المسرح الدولي.
التركيز على تعميق العلاقات لحماية السلام
تم النظر بجدية في التعاون طويل الأمد مع الصين منذ بداية الحكومة الثالثة عشرة، وأخيراً، بدأ التنفيذ الفعال والجاد للوثائق الاستراتيجية بينهما. كانت إحدى النتائج الأولى لهذه المبادرة زيادة كبيرة في العلاقات الاقتصادية الثنائية، والتي يمكن رؤية آثارها بشكل مباشر وغير مباشر في زيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي والميزان التجاري للبلاد. بالإضافة إلى التعاون الاقتصادي، توسعت التفاعلات السياسية مع الصين وتعمقت في مختلف المجالات وخلقت صورة ذات مغزى على الساحة الدولية. كما بدأ التعاون المناسب في المجالات الدفاعية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك إجراء مناورة عسكرية مشتركة بين إيران وروسيا والصين؛ وفي هذا الصدد، يتم التركيز بشكل خاص على تعميق العلاقات لحماية السلام الإقليمي والدولي.
روسيا هي الأخرى ستلعب دوراً مهماً في التطورات الدولية المستقبلية، وعلاقات الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع هذا البلد مؤسسية واستراتيجية. الصراع بين روسيا وأوكرانيا هو أزمة لها آثار عالمية نأمل أن تنتهي في أقرب وقت ممكن مع انتهاء التدخلات الغربية. بغض النظر عن وقوع هذه الحرب، تعتبر روسيا من الدول التي لديها القدرة على خلق دور جديد في التطورات الدولية المستقبلية والنظام العالمي متعدد الأقطاب، وفي الحكومة الثالثة عشر، تم إيلاء اهتمام خاص لتعميق التفاعلات مع هذا البلد.
مع الإعلان عن جاهزية وجدّية كل من إيران وروسيا، أتيحت فرصة غير مسبوقة لفتح طريق العبور بين الشمال والجنوب وأصبح أولوية مهمة لجهاز السياسة الخارجية. زاد حجم التجارة والاستثمار الثنائي بشكل كبير، وأتيحت فرصة التعاون الدولي بين البلدين أكثر مما كانت عليه في الماضي. كما تطور التعاون الدفاعي بشكل كبير وهو فعال للغاية في تحسين القدرات الدفاعية والردعية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي مجال استفادة إيران من مزايا الطاقة النووية السلمية، وخاصة في بناء وتشغيل محطات الطاقة النووية، لعبت روسيا دوراً مهماً من خلال مواصلة التعاون في هذا المجال.
وفي نفس الوقت الذي حدثت فيه هذه التطورات، حدثت تطورات عميقة على المستوى الإقليمي وأتيحت الفرصة للتفاعل والتعاون بين بلدان المنطقة أكثر من السابق. تسعى الحكومة الثالثة عشرة، من خلال تبني استراتيجية الجوار بما يتماشى مع الأهداف الرئيسية للبلاد في المنطقة، إلى تعزيز العلاقات مع دول الجوار، وإحلال السلام والاستقرار، ومواجهة التطرف والتدخل الأجنبي، وقبل كل شيء مقاومة التجاوزات والهيمنة. وبهذه الطريقة، دفعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الكثير من الأموال والتضحية بالأرواح العزيزة على إلتزامها بهذه المبادئ، وكان استشهاد اللواء سليماني أهمها. استشهاد هذا اللواء الكبير الذي خاطر بحياته مرات عديدة في طريق مواجهة تطرف "داعش" على يد نظام الهيمنة، جريمة لا تغتفر من الغرب وأمريكا.
"نظرية المقاومة" كاستراتيجية فعالة لتحقيق السلام
في إطار نهج الجوار، انتهت المفاوضات الطويلة والجادة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية بعد عدة سنوات، وبمشاركة الصين في إتمام الاتفاقيات الثنائية والعلاقات السياسية بين البلدين. قدم هذا العمل الاستراتيجي الأساس لتطورات أخرى في المنطقة ولتحسين الوضع السياسي والإقليمي لكليهما. وبطبيعة الحال، فان الاتفاق بين البلدين المهمين في المنطقة سوف يترك آثاراً عالمية وبنّاءة لا يمكن إخفاؤها، وينبغي إعطاء المزيد من الوقت لتقييم الإنجازات. والشيء المؤكد هو الفوائد الإيجابية والبناءة لهذه العلاقات، والتي سيتم توفيرها للشعبين أولاً، وستساهم بالتأكيد في إزدهار المنطقة وسلامها واستقرارها.
خلال هذه الفترة، لم تكن الحكومة الثالثة عشرة غافلة عن التهديدات التي تسبب بها الكيان الصهيوني واستغلت كل فرصة لمواجهة ومنع السياسات والإجراءات الإرهابية الباعثة على التوتر والمعادية للإنسان لهذا الكيان. في النظام العالمي الجديد، سيكون لهذا الكيان بالتأكيد فرصة أقل ومحدودة لإساءة استخدام وتعطيل النظام والأمن في المنطقة. ويعتبر قبول الأمم المتحدة لمراسم "يوم النكبة"، التي جرت لأول مرة في تاريخ هذه المنظمة، أحدث بادرة على هذه التطورات ضد جرائم هذا الكيان. في نفس الوقت الذي تشهد فيه هذه التطورات، فان "نظرية المقاومة" كاستراتيجية فعالة لتحقيق السلام والهدوء في المنطقة، والتي تتطلب التعامل مع مؤامرات الكيان الصهيوني وأعماله العدائية، سيتم تأكيدها ومتابعتها بصورة جادة من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في نظرية "لا شرقية ولا غربية"، ومع تطور العلاقات مع الشرق وآسيا، لم تتجاهل الجمهورية الإسلامية الإيرانية علاقاتها مع العالم الغربي، ولا سيما أوروبا. اتبعت الحكومة الثالثة عشرة وستحافظ على العلاقات القائمة على المبادئ والقيم والقواعد الدولية مع الدول الأوروبية. توقعاتنا في العلاقات الثنائية مع الدول الأوروبية هي الاحترام والمعاملة بالمثل.
لسوء الحظ، قامت بعض الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة، بذرائع مختلفة، بما في ذلك إدعاءات حقوق الإنسان وادعاء تدخل إيران في الصراع الأوكراني، بوضع العراقيل أمام تقدم العلاقات الثنائية، الأمر الذي لن يفيدها بالتأكيد. إن هذه الدول (الأوروبية) تتمتع بقدرة على لعب دور بناء في النظام العالمي الجديد، وتريد الحكومة الثالثة عشرة تطوير علاقات متبادلة معها وهي مستعدة للحوار المتكافئ والتفاعل البناء لحل الخلافات.
من ناحية أخرى، لن تظل الجمهورية الإسلامية الإيرانية صامتة في وجه التهديدات التي تتعرض لها مصالحها الوطنية من دول أخرى، ولن تتردد في حماية مصالحها الوطنية وأمنها.
لا يمكن وصف الطبيعة المتناقضة لسلوك أمريكا سوى العدائية والمواجهة
بالتوازي مع الاتجاه المتدهور لقوة أمريكا في النظام الدولي، فان استراتيجية هذا البلد تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية تشير أيضاً إلى الغموض والارتباك. أمريكا تتبنى سياسة "الردع والدبلوماسية" ذات الشقين تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففي الوقت الذي تتحدث فيه أمريكا عن التهديد الايراني، فهي مرغمة في نفس الوقت على التحدث عن تهديدات داعش -التي دمّرت بجهود الجمهورية الإسلامية الإيرانية- وفي الوقت الذي تتحدث أمريكا عن إلتزامها العملي بالدبلوماسية، فهي تمارس أقصى أنواع الضغط والعقوبات الشاملة. لذلك لا يمكن وصف الطبيعة المتناقضة لسلوك أمريكا تجاه الشعب الإيراني بأي شيء سوى العدائية والمواجهة.
على عكس السياسة الأمريكية العدائية ضد الشعب الإيراني، يتمثل نهج الجمهورية الإسلامية في تعزيز القدرة الاقتصادية للبلاد من خلال تحييد العقوبات والتعامل مع آثارها قدر الإمكان. وعليه، فان الحفاظ على البرنامج النووي السلمي وتطويره يعتبر من الأولويات الرئيسية للبلاد. في الوقت نفسه، تدعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية آلية الدبلوماسية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وتعتبر عودة الولايات المتحدة من المسار الخاطئ السابق والوفاء على الأقل بالتزاماتها في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة كاختبار للتعويض عن جزء من الضرر الذي لحق بالشعب الإيراني. من الواضح جداً أنه في الاتجاه العالمي المستقبلي والنظام الجديد القادم، لن يتم الترحيب بالسلوك الأحادي والمهيمن للولايات المتحدة، وإذا لم يتم تصحيحه، فان التنبؤ بمزيد من تدهور هذا البلد ليس بعيداً عن الواقع.
من أجل تأمين المصالح الوطنية وتحقيق الأهداف المرجوة في السياسة الخارجية، استغلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كل طاقاتها، ومن بينها إيلاء اهتمام خاص بمجتمع الإيرانيين في الخارج. يشكل هذا القسم من الإيرانيين نسبة كبيرة من المجتمع النخبوي، والنظام الإسلامي، مع اعتزازه بالمجتمع المهتم والمتحمس للإيرانيين في الخارج، يعتبر نفسه مضطراً لخدمتهم دون تردد وترحب بأي مشاركة وتعاون بنّاء من جانبهم بهدف المساهمة في تطور وتقدم البلاد.
في الختام، تجدر الإشارة إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد بذلت كل جهودها لتأمين المصالح الوطنية والازدهار والأمن في ظل النظام الدولي المضطرب، بنهج يبعث على الأمل وتحقيق الأهداف السامية للثورة الإسلامية المستمدة من تعاليم الإمام الراحل(رض) والأفكار العظيمة لسماحة قائد الثورة الإسلامية الإمام خامنئي (دام ظلّه العالي)، وتعزيز العمل في مجال السياسة الخارجية.
وعليه، فان الجهاز الدبلوماسي وتماشياً مع هذا النهج، يرحب بالتنسيق والمشاركة والنظرة النقدية لنخب المجتمع حتى يتمكن الجهاز من تحقيق أهداف السياسة الخارجية للبلاد في إطار واسع ومنسجم. ويؤكد أن جهاز السياسة الخارجية مصمم على الاهتمام بالقضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح والأمن الوطنيين على المستويين الكلي والوطني ومنع الخلافات السياسية الداخلية من التدخل في السياسة الخارجية وقضايا العلاقات الدبلوماسية.
خلال هذه الأيام، تتاح لوزارة الخارجية الفرصة لعقد اجتماع على مستوى السفراء ورؤساء البعثات الايرانية في الخارج لمناقشة التطورات في الساحة الدولية بشكل شامل وتأثيرها على السياسة الخارجية والدبلوماسية؛ وفي الوقت نفسه، سيتم مناقشة ودراسة وتبادل أفكار وآراء النخبة السياسية في البلاد من مختلف الأطياف التوجهات.