فن الحرب في غزة
عماد الحطبة
كاتب ومحلل سياسي
عندما ظهرت المقاومة المعاصرة، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وإخراج المقاومة الفلسطينية من جميع الدول التي تجعلها على تماس مع الحدود الفلسطينية، ما مهّد الطريق أمام التحاق قيادة منظمة التحرير بمشروع السلام العربي، ودخولها دائرة التطبيع والتفريط، في تلك اللحظة كانت المقاومة الناشئة سواء داخل فلسطين أو خارجها، فعلاً عفوياً شعبياً من دون آفاق سياسية حقيقية، ومن دون خطة استراتيجية لهزيمة العدو، لذلك كانت نتائج الفعل الثوري خاصة داخل فلسطين كارثية على مسار النضال العربي التحرّري.
من بطولات وصمود الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) ولدت اتفاقات أوسلو ووادي عربة، وشاع وهم حلّ الدولتين، أو الدولة الواحدة، لكن ما حدث على الأرض كان استسلاماً كاملاً لمخططات العدو ومشاريعه وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي وصلت فيها أكثر حكومة فاشية في العالم إلى سدّة الحكم في كيان الاحتلال. حدث ذلك لأننا كنّا نجهل قدراتنا وقدرات عدونا، فكانت الهزيمة
مصيرنا المحتوم.
كرّر التاريخ نفسه زمن الانتفاضة الثانية، وكنّا وقتها ندرك إمكانياتنا، لكننا كنّا نجهل إمكانيات عدوّنا، ولا أتحدّث هنا عن الإمكانيات العسكرية، ولكن عن الإمكانيات السياسية والدبلوماسية، لذلك لم يلق المناضلون إلا الخذلان من الأصدقاء والأشقاء والأعداء، لأن القيادة اختارت تحالفاتها بما يتفق مع مسيرة السلام التي قبلت بها، وكان الحلفاء أقرب بكثير إلى دولة الاحتلال منهم إلى قيادة الانتفاضة. هزمنا مرة أخرى وسحب العدو المزيد من الأرض من تحت أقدامنا، وتقدّم سياسياً في الكثير من العواصم، فأصبحنا نراه على شاشتنا ضيفاً، وفي عواصمنا سياسياً ورياضياً ودبلوماسياً.
على الجانب الآخر كان محور المقاومة يتطوّر في تعاطيه مع العدو على قاعدة التوازن الاستراتيجي. قام المحور ببناء هذا التوازن على مراحل، في المرحلة الأولى كان التصدي والمبادرة إلى عمليات محدودة تكلّف العدو خسائر كبيرة، تجعل من بقائه على الجزء المحتل من الأراضي اللبنانية مغامرة باهظة التكاليف. توّجت هذه المرحلة في أيار/مايو عام 2000 بانسحاب العدو وعملائه من الجنوب اللبناني من دون تحقيق إنجاز يذكر. المرحلة التالية كانت مرحلة الردع والتي توّجها محور المقاومة بانتصار تموز 2006، الذي وضع القاعدة لما عرف بتوازن الرعب، والرعب هنا يتعلق بالعدو الذي أدرك أن المقاومة باتت قادرة على إيقاع خسائر في العمق الفلسطيني المحتل لن يكون الكيان الإسرائيلي قادراً على تحمّل تبعاتها على جبهته الداخلية.
في غزة اليوم تخوض المقاومة معركة أخرى مع العدو، هذه المعركة شهدت تطوّراً في أداء المقاومة من خلال إيقاع خسائر أكبر في صفوف العدو سواء كانت خسائر بشرية أو اقتصادية. وإذا قارنا ما بين خسائر العدو في معركة "سيف القدس" التي استمرت 13 يوماً، وخسائره في معركة "ثأر الأحرار" التي استمرت 5 أيام، سندرك تماماً مدى التطور النوعي الذي طرأ على أداء المقاومة. فما زالت أمام المقاومة العربية خطوات تشكّل القاعدة الضرورية للانتقال إلى مرحلة النصر الحقيقي، أولى هذه الخطوات إدراكنا أن الثورة ليست فعلاً عفوياً. حتى إن انطلقت الثورة بشكل عفوي، فلا بد من تأطيرها ضمن نظرية ثورية أولاً، ثم على الطليعة الثورية إدراك أنها لا تخوض المعركة نيابة عن الجماهير فهي تقود الجماهير لكنها ليست بديلاً عنهم.
إنَّ الكفاح الثوري التحرري العربي لن يكون مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حُرِّرَت إرادتهم وعقولهم، ونَضَجَ وعيهم بالظلم الوطني، لكي يقوموا بدورهم النضالي المطلوب في مسيرة النضال التحرّري الوطني. وأمام هذه المقاومة ضرورة لا يمكن تجاوزها، فشعار "وحدة الساحات" ليس شعاراً حماسياً أو طرحاً للاستهلاك السياسي، بل هو الوسيلة التي قد تكون الوحيدة للانتقال من حالة الدفاع إلى
حالة الهجوم.
علينا أن ندرك أنه كلما احتدم الصراع ضد الإمبريالية في المنطقة، يحتدم الصراع مع الصهيونية التي تتصدّى للدفاع عن المصالح الإمبريالية في المنطقة، بهذا يكون العدوان على غزة مرتبطاً بتطور المقاومة في الضفة الغربية، وبحسم المعركة في سوريا واليمن لصالح المقاومة، وبتصاعد قوة محور المقاومة من طهران وحتى قطاع غزة مروراً بدمشق وبيروت وجنين ونابلس.
أعلن وقف إطلاق النار، وطوت المقاومة صفحة معركة، لكن الحرب ما زالت مستمرة وساحاتها تزداد في مواجهة العدو الحقيقي الذي تمثّله الغطرسة الإمبريالية بسعيها لنهب خيرات الشعوب والسيطرة على مقدّراتها، لذلك تبقى التعبئة والتخطيط عملان ضروريان لكسب المزيد من الجماهير إلى صفوف الفعل المقاوم من خلال تحرير إرادتها، وتزويدها بالنظرية الثورية التي تحصّن
قناعاتها.