نظرة على النشاط السياسي للجماعات الدينية في الانتخابات التركية
الوفاق/ معهد مرصاد
مسعود صدر محمدي
تعتبر التجمعات الدينية إحدى الحقائق الاجتماعية في تركيا ولا يمكن للمرء أن يتجاهل الدور الذي لعبته في الهندسة الاجتماعية والسياسية لتركيا المعاصرة. فمنذ الحرب الباردة، وبعد أن استطاعت التجمعات والتيارات الدينية أن تتنفس في ظل الكفاح ضد موجة الشيوعية، وحتى اليوم، كانت أحد العناصر التي شكـلت الإجراءات الاجتماعية والسياسية في تركيا، كما حاول السياسيون في ظل هذه الحقائق وخلال المراحل التاريخية المختلفة، استغلال ذلك لمصلحتهم الخاصة وإضفاء الشرعية على تحركاتهم، على ضوء المكانة الاجتماعية والجاذبية التي تتمتع بها هذه الجماعات. في مرحلة ما، كانت الأحزاب اليمينية، ثم الحركة الإسلامية الوطنية "غوروش" بقيادة الراحل نجم الدين إربكان، من بين الحركات التي تمكنت من الاستفادة من طاقات هذه التيارات .
يمكن اعتبار فترة السبعينيات إلى أوائل القرن الحادي والعشرين الفترة الذهبية الاجتماعية لهذه التيارات. بالنظر إلى موجة الهجرة إلى المدن من أطراف المناطق من البلاد، كانت التجمعات هي المنصة الرئيسية للتعاون الاجتماعي وهيكل اكتشاف الهوية في المدن الكبرى، ومع التعبئة المستهدفة لأنشطتها الاجتماعية، مع تحسين الظروف المعيشية للمواطنين من خلال إنشاء منظمات التعاون الاجتماعي، وفرت الارضية وقدمت المساعدة لهؤلاء للانضمام اليها، كما وفرت لهم فهمًا جديدًا لهويتهم الفردية والجماعية.
وبالنظر إلى هذه الحقيقة، من الطبيعي أن يحاول السياسيون في بعض الحالات الحصول على دعم وتعاون هذه التيارات بسبب الانتماءات الشخصية والدينية مثل الراحل أربكان أو ببساطة بما يتماشى مع مصالحهم السياسية مثل تجارب سليمان ديميريل. ومع ولادة وتأسيس حزب العدالة والتنمية، استمر التقليد نفسه، وبالمناسبة، كان أداء هذا الحزب أكثر نجاحًا في هذا المجال مقارنة بسباقه لمنافسين آخرين. استخدم حزب العدالة والتنمية التجمعات والتيارات الدينية كمكان لجذب الموارد البشرية والبيروقراطيين الموثوق بهم وحاول تنظيم جسده الاجتماعي ضد الحكم الكمالي بمساعدة هذه الهياكل. مجموعة مثل حركة فتح الله غولن، التي تمكنت خلال عدة عقود من النفوذ داخل الحكومة خلال عهد حزب العدالة والتنمية، من أن تصبح حكومة موازية داخل الحكومة من خلال كسب ثقة قادة هذا الحزب واكتساب السلطة في المؤسسات الحساسة، مثل القضاء والأجهزة الأمنية والجيش. وتحول الهيكل التربوي بشكل خاص إلى قوة مقاومة للحزب الحاكم وصعدت في النهاية إلى مرحلة الصراع الأمني (ما يسمى بحادثة الافشاء في 17-25 أكتوبر 2013) وأخيرًا الانقلاب العسكري (15 تموز / يوليو 2016) كان أحد الأمثلة على هذه الجماعات.
كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة هو ربيع تقدم التجمعات والتيارات الدينية. من خلال توفير الامتيازات الحكومية لهذه التيارات و دفعها نحو النمو والتنمية، من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنشأ منصة لجذب المزيد من الاستثمارات الاجتماعية لنفسه. هذا الاستثمار لحزب العدالة والتنمية، باستثناء حالة حركة غولن، والذي كان بمثابة ضربة قوية للصورة السياسية والقوة الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية، كان استثمارًا ناجحًا في معظم الحالات، وكان رجب طيب أردوغان مع قدرته القيادية قادر على مواءمة هذه التيارات لصالحه، في المراحل السياسية الحساسة بما في ذلك الانتخابات. من الطبيعي أن تكون الجماعات والتيارات الدينية إحدى القواعد الانتخابية الرئيسية لأردوغان وحزبه في الانتخابات الحالية، ويبدو للوهلة الأولى أن هذه الاتجاهات ستعزز فرص أردوغان في الفوز. لكن في الحقيقة، هل لا تزال الجماعات الدينية تتمتع بقوة الماضي وتعمل كالسابق ؟ و أيضًا، هل ارتباطهم بأردوغان طوعي ومتعاطف كما في الماضي، أم استجدت قضايا أخرى لهم في هذا النشاط السياسي؟ وهل للجماعات الدينية المعارضة حضور خارجي أمام حزب العدالة والتنمية؟
التجمعات والتيارات الدينية.. أسلحة صدئة!
على الرغم من أن التجمعات الدينية - كما ذكرنا - لعبت دورًا رئيسيًا وحيويًا في الحياة الاجتماعية لتركيا في العقود الماضية، ولكن في السنوات الأخيرة، فان الزمن ليس في صالح سلطتها الاجتماعية. مع مرور الوقت، تفقد هذه المنظمات سلطتها السابقة ومكانتها الاجتماعية السابقة في قيادة الفئات الاجتماعية وتتقلص أنشطتها الفكرية والمدنية. ويعود جزء من عملية انعدام الثقة هذه لمتطلبات العصر الجديد. من الطبيعي أن الأجيال الجديدة في المدن الكبرى لديها احتياجات مختلفة عن جيل آبائهم الذي كان جيلًا جديدًا في المدن الكبرى آنذاك . وإن سلطة الشبكات الاجتماعية ومشاهير هذه الشبكات وتقليل القيود الدينية في جيل الشباب بطبيعة الحال لها دور مقلص للأهمية والمكانة الاجتماعية للتجمعات والتيارات الدينية . من ناحية أخرى، أدى أداء التجمعات والتيارات الدينية في العقدين الماضيين نحو عنصري القوة والثروة إلى استنتاج المراقبين الخارجيين والجماهير العامة أن هذه المنظمات ليست متدينة كما زعمت او تزعم أمام هذين العنصرين المغريين وانها لا تفوت فرصة لاكتساب القوة والثروة، خاصة عندما تحصل على هذين العنصرين بسهولة . على الرغم من أن جزءًا كبيرًا من التجمعات الدينية بدأت أنشطة اقتصادية في البداية لتوفير البنية التحتية للتعاون الاجتماعي، ولكن في العقدين الماضيين تحولت هذه التجمعات عمليًا إلى ممتلكات رأسمالية كاملة لاتراعي الأخلاق والاقتصاد الإسلامي. كما أظهرت هذه المجموعات، خاصة فيما يتعلق بمسألة الاستيلاء على إرث حركة غولن ومحاولة استبدالها في الهيئة الحاكمة، أنه عند الضرورة، يمكنها التحرك نحو سلوكيات لا تتوافق مع المعايير الإسلامية.
لقد أدى تقليص أهمية الجماعات الدينية عملياً إلى تعطيل استراتيجية خلق هذه الهوية بين الإسلام وحزب العدالة والتنمية وتقديم خطاب يجعل دعم الإسلام يعتمد على دعم أردوغان وحزبه. على الرغم من أن هذه الاستراتيجية كانت في البداية استراتيجية جادة وورقة لعب قوية في يد أردوغان والأحزاب، إلا أنها الآن لم تعد ورقة رابحة. من جهة، يُظهر هذا الوضع عدم قدرة التجمعات على إعادة إنتاج أجيال موالية لها، ومن جهة أخرى، يُظهر تأثير العوامل المحيطة، بما في ذلك الاقتصاد والسياسة، على نوع نشاط المؤمنين من الجماعات والتيارات الدينية . وبالنظر إلى هذا الوضع، ينبغي القول إنه على الرغم من أن التجمعات والتيارات الدينية لا تزال سلاحًا في يد أردوغان، إلا أنها أصبحت سلاحًا صدئًا وغير فعال.
دعم أردوغان طوعا أو كرها!
في كثير من الحالات، دعمت التجمعات أردوغان بناءً على إيمان قلبي واستنادًا إلى نظرتها تجاه قضية السياسة والحكم في البلاد. وتعتبر هذه الجماعات بان أردوغان وحزبه افضل من الاخرين، وأن دعم أردوغان له جانبان إيجابي وسلبي. ومن السلبي من وجهة نظرها أن وجوده يشكل دافعا امام صعود العلمانيين المتطرفين إلى السلطة الذين لايعترفون بمعتقدات وتقاليد الأمة التركية منذ عقود، و إيجابي لأن وجوده في البلاد يعزز من كرامة و احترام المؤمنين. ولكن هل حقا كانت هذه المبادئ السياسية هي الحوافز الوحيدة لدعم أردوغان خلال العقدين الماضيين؟
عندما نفكر في مقدار الريع الاقتصادي والإداري للجماعات والتيارات الدينية خلال سلطة أردوغان، يمكننا بلا شك أن ندعي بثقة أن أردوغان، من خلال توليه السلطة، قد منح الجماعات فرصا لم يفكروا بها أبدًا. لقد وجدت هذه الجماعات إمكانية التحول إلى كارتلات اقتصادية، في كثير من الحالات مقابل مدفوعات من وراء الكواليس وبأهداف محددة، حصلت على إمكانية الحصول على خصومات ضريبية، واكتسبت حضورًا جادًا في المناصب الحكومية والتعليمية والجامعية. على الأقل في مجال التربية الدينية، التي تحولت إلى ساحات خلفية لهذه الجماعات، واكتسبت قوة لا يمكن المساس بها في المؤسسات الحساسة مثل القضاء، والأهم من ذلك اكتسبت هذه الجماعات إمكانية تقديم متطلباتها مباشرة إلى قمة هرم السلطة السياسية في البلاد. إن حجم التداول المالي للتجمعات الدينية في مجالات التعليم والصحة والإعلام والتجارة الخارجية يمثل عائدا كبيرا، وهو بطبيعة الحال يجعلها تدرك أن كل هذه المزايا ترجع إلى وجود أردوغان في السلطة السياسية.
لكن من ناحية أخرى، فإن سلوك أردوغان في السنوات القليلة الماضية تجاه الحركات الدينية المعارضة له يظهر حقيقة أخرى، وهي أن أردوغان لن يرحم من يعارضه على أسس دينية. إنه لا يتجاهل إذلالهم ومعاقبتهم لجعلهم سلبيين وليكونوا عبرة للآخرين، وطالما أظهر أنه جاد في هذه القضية.
إن الطريقة التي تصرف بها مع، تميل كرم الله أوغلو، زعيم حزب " سعادت"، خلال لقاء خاص بين الاثنين، والذي لم يسمح له بالجلوس في مقعد على نفس مستوى أردوغان، هو مثال على هذا الإذلال الذي كان له الكثير من ردود فعل وسائل الإعلام. كما أن القمع الشديد ضد جماعة الفرقان في جنوب البلاد، والذي نادرًا ما شوهد في تركيا المعاصرة في العقدين الماضيين، هو أحد أمثلة العقاب الشديد. وكان زعيم هذه المجموعة في السجن منذ عام وتعرض أعضاؤه للضرب المبرح على أيدي الشرطة عدة مرات. مثال آخر على معاقبة أردوغان للتجمعات هو العقوبة، التي تتمتع بقوة اقتصادية عالية، و تمتلك سلسلة متاجر" بيم"، الاقتصادية – الادارية لجماعة "ارينكوي" التي يمكن رؤية فروعها في جميع مدن تركيا، وذلك لأن هذه الجماعة تعاطفت مع أحمد داوود أوغلو، فقد فرضت عليها ضرائب باهظة وغرامات، فضلاً عن عمليات التفتيش المستمرة واليومية للحكومة والمؤسسات الحكومية . هذا النوع من سلوك أردوغان تجاه هذه المجموعة، والتي تصادف أن تكون إحدى المجموعات المتحالفة معه، أظهر للمجموعات الأخرى أنها جميعًا ستحصل على الريع الاقتصادي اذا كانت تسير وفق ارادة أردوغان، ولكن التعرض لغضبه سيؤدي الى عواقب وخيمة عليها.
يمكن أيضًا الاشارة الى مثال آخر، فيما يتعلق بغضب اردوغان تجاه جامعة " مدينة اسطنبول". على الرغم من أن هذه الجامعة لا تنتمي إلى طائفة دينية أوصوفية، إلا أنها إحدى الجامعات الرئيسية التي تنتمي إلى الحركة الفكرية الإسلامية المنفتحة، والتي عمليا، قدمت أيضًا تجربة ناجحة جدًا في المجال الأكاديمي وأصبحت قطبًا علميًا في تركيا . ولكن بمجرد أن أدرك أردوغان تعاطف هذه الجامعة مع داود أوغلو - الذي كان أيضًا مؤسس تلك الجامعة - أغلق عمليا هذه الجامعة العظيمة في ليلة واحدة ووزع طلابها وأعضاء هيئة التدريس فيها على الجامعات الأخرى. وبالنظر إلى كل هذه الحقائق، يمكن الاستنتاج أن التجمعات والتيارات الدينية ، إلى جانب تقاربها الفكري والعقائدي، بسبب التسهيلات التي تلقتها من أردوغان وسلطته، وبسبب خوفها من غضبه، ليس لديها خيار سوى مماشاة أردوغان .
هل حقا يتماشى الجميع ؟
إلى جانب الدعم الكامل من مختلف التجمعات، كان أبرزها وأهمها ربما حركة إسماعيل آغا، على الرغم من كل المطبات التي واجهتها، هناك بعض التجمعات الدينية، بما في ذلك جماعة " سليمانجي"، الذين تصادف أن تكون كتلة كبيرة وقوية. وهي جماعة سرية رفضت التماشي مع أردوغان مثل بقية الجماعات خلال السنوات السابقة. على الرغم من أن هذه المجموعة تمكنت من الاستفادة من الفراغ الحكومي في السنوات التي تلت 15 يوليو، إلا أنها لا تزال تحافظ على مسافتها من حزب العدالة والتنمية. المثير في الأمر أن هذه الجماعة، ذات الهيكل الطبقي والهرمي، تطرد الأشخاص الذين لا يتماشون معها في هذا الأمر، من عضويتها .
من ناحية أخرى، في التجمعات الأخرى، وخاصة التجمعات الحضرية وفي العاصمة، حيث يتمتع الأعضاء بقدر أكبر من الاستقلالية الفكرية والسلوكية، أو ليس لدى الجماعة سيطرة قوية عليهم، على الرغم من حقيقة أن قيادة الجماعة قد أعلنت دعمها لأردوغان ولكن الأعضاء الاخرين يعارضون رأي القيادة . في هذه الاثناء حققت التجمعات الدينية مثل إسماعيل آغا، التي حافظت على هيكلها التقليدي والصارم، نجاحًا أكبر في التحكم في سلوك أعضائها، لكن التجمعات التي ليس لها هياكل رقابية أو إشرافية صارمة حققت نجاحًا بصورة أقل.
ماذا سيحدث في اليوم التالي للانتخابات؟
ماذا سيحدث للجماعات الدينية إذا سارت الانتخابات يوم الأحد لصالح كمال كيليجدار أوغلو وتراجع نجم حظ أردوغان؟ بينما يعتقد الكثير من الناس أن تغيير السلطة في أنقرة سيكون له عواقب حيوية للعديد من هذه الجماعات، ولكن عندما نفكر في تجربة تغيير السلطة في بلديات اسطنبول وأنقرة، سندرك أن القضية أكثر تعقيدًا مما يمكن رؤيتها من الظاهر .
من المؤكد أن جزءًا مهمًا من الامتيازات الاقتصادية والتسهيلات المجانية وفرص العمل للجماعات الدينية سوف يتعرض للخطر أو ينقطع مع التغيير المحتمل للسلطة في أنقرة، لكن هذا لن يعني نهايتها. لأن الحركة العلمانية ليست في وضع يسمح لها باستقطاب عداء هذه الجماعات بإجراءات راديكالية ضدها . على العكس من ذلك، فإن التيار العلماني سوف يوجه رسالة للجماعات بما تعنيه " اذا تماشيت معي سوف اتماشى معك قدر الامكان ".
حيث إن إثارة الحساسيات الدينية بين المواطنين واستقطاب عداء الجماعات الدينية، على الأقل في السنوات الأولى، لن يكون في صالح الحركة العلمانية. من ناحية أخرى، في الثمانينيات والتسعينيات، عندما عانت تركيا من تغيير الحكومات بسرعة، أظهرت هذه الجماعات أن لديها مرونة عالية ويمكنها إعادة تحديد أولوياتها السياسية في وقت قصير بناءً على حساسيات
الطرف الآخر .