هل يعود يوم العمال مادة للتنافس الأيديولوجي؟
محمد فرج
كاتب ومحلل سياسي
على امتداد الحرب الباردة، لم يتوقف يوم العمال عن التذكير بالانقسام العالمي بين معسكرين؛ شرقي يدعو إلى الاقتصاد المركزي وتوسيع ملكية الدولة، وغربي يدعو إلى "الاقتصاد الحر" وقيادة رجال الأعمال. قلقت أوروبا والولايات المتحدة من تسرّب مبدأ "الأمان الاقتصادي" السوفياتي إلى أراضيها، ولا سيما أن هذا المبدأ كان مسنوداً بقوة عسكرية كبيرة وتنظيمات يسار محلية اتسعت في قدراتها وكوادرها. وقد سارعت الأنظمة الغربية بعدها إلى حلول الاحتواء، تحت شعار "لا يمكن تجاهل الأمان الاقتصادي بإثارة شهية الرفاه". وبذلك، اتسعت صناديق الضمان الاجتماعي في أوروبا والولايات المتحدة وصناديق التكافل التي ترعاها النقابات، واتسعت أيضاً ظاهرة شركات التأمين الصحي وتأمين الشيخوخة وبدلات البطالة وبدلات رعاية الأسرة وغيرها ما يمكن أن يوفر غطاء الأمان المفقود الذي يشكل لبّ الدعاية السوفياتية.
في ثمانينيات القرن الماضي، ضاقت بريطانيا بتكاليف الأمان الاقتصادي المضادة، فأطلقت تاتشر جملتها الشهيرة "اركب دراجتك"، في دعوة للمواطن البريطاني إلى أن يبحث عن العمل بنفسه من دون انتظار تأمينات الدولة. خلف تاتشر وريغان، كانت تقف التصريحات النظرية والفكرية لميلتون فريدمان وفريدريك هايك، على اعتبار أن تدخل أي حكومة في اقتصاد بلدها هو مفسدة له، "ولو حاولت الحكومة الاستثمار في الصحراء، لاشتكت لاحقاً من نقص في الرمال".
ترافقت لحظة الانهيار الكبير للاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات مع انهيار لدعاية "الأمان الاقتصادي". وجدت الأنظمة الغربية نفسها في وضعية تمكنها من الانقضاض على حقوق العمال والتراجع عن المكتسبات التي قدّمتها لهم تحت ضغط المنافسة مع نموذج السوفيات، وتراجعت كفاءة صناديق التقاعد، واستسهلت أوروبا رفع سن التقاعد في كل مناسبة تجد نفسها فيها عاجزة عن تأمين المتقاعدين الجدد، وهذا ما يحصده ماكرون في فرنسا اليوم، وما يفسر كذلك الارتفاع المستمر لسن التقاعد في اقتصاد نشط كألمانيا. تراجعت حدة الصراع الأيديولوجي حول يوم العمال منذ لحظة الانهيار، وبدأت تغييرات ضمنية لعنوان اليوم نفسه من "يوم العمال" إلى "يوم العمل"، أو حتى دمجه أحياناً بالربيع ليكون يوم "العامل والربيع". لم تكن مرحلة الأحادية القطبية سيطرة على الاقتصاد فقط، إنما كانت أيضاً سيطرة على قاموسه ومفرداته وآليات فهمنا له ولمعناه وقيمه ومبادئه.
لذلك، لم يمتلك "يوم العمال" خلال مرحلة "الأحادية القطبية" رفاهية العثور على زاوية واسعة في اهتمام الأحزاب السياسية والأفراد. ومع موجات الحروب (العراق، أفغانستان، يوغسلافيا...) وموجات الاضطراب (الربيع العربي، وصناعة المعارضة في أميركا اللاتينية والصين وروسيا...) التي أشعلتها الولايات المتحدة، أُجبر الناس على حصر تفكيرهم في قيمة حياتية أساسية أكثر من غيرها، هي الأمن وإمكانية البقاء.
اليوم، تراجعت الولايات المتحدة في سلم الاقتصاد العالمي، وتراجعت حصتها من الاقتصاد العالمي، وصارت حصة الدولار من مجمل الاحتياطي العالمي تتراجع باطراد، كما تراجعت قدرات الولايات المتحدة نسبياً في صناعة الاضطراب والتفكيك. هذا التراجع يسحب معه بالضرورة تراجع مفاهيمها المعممة وتقلّص قاموسها الاقتصادي.