عضو المجلس المركزي في حزب الله للوفاق:
جمال الدين أسد آبادي... مصلحاً وحدوياً داعياً لعدم الفصل بين الدين والسياسة
ترجع نهضة الأمم والدول إلى جهود المصلحين المخلصين من أبنائها الذين يسعون دائمًا إلى توحيد الأمة، وإيقاظ وعي أبنائها بقضايا ومشكلات أمتهم، وتحريك همتهم نحو الإصلاح والتجديد، والوقوف صفًا واحدًا في وجه أطماع المستعمرين والطامعين. وفي أواسط القرن التاسع عشر قام رجال مصلحون من أبناء الشرق الإسلامي، دقّوا ناقوس الخطر لأمتهم، وحذّروا ملوكهم وحكامهم من الخطر الوشيك الذي يتربص بالأمة الإسلامية، وتعالت أصواتهم بالدعوة إلى التعجيل بالإصلاح قبل وقوع الخطر، وكان من هؤلاء الرواد جمال الدين أسد آبادى أحد هؤلاء الرواد المصلحين الذين وظفوا حياتهم كلها بالدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي، وتحرير شعوبه من الاستعمار والاستغلال. ولقد تميّز السيد أسد آبادى عن بقية المصلحين بتجاوز صوته الإصلاحي حدود وطنه، لتتسع شاملةً العالم الإسلامي كله.
ضمن هذا السياق وللتعرف على أهم مرتكزات المشروع الإصلاحي للسيد أسد آبادى ورؤيته الوحدوية ودوره في الصحوة الاسلامية أجرت صحيفة الوفاق مقابلة مع عضو المجلس المركزي في حزب الله الباحث الشيخ أديب حيدر، وكان الحوار التالي:
كيف كان الواقع الثقافي والديني والسياسي، وما كانت أبرز الأفكار المنتشرة قبل السيد جمال الدين أسد آبادى وفي زمانه؟
شهد العالم الإسلامي قبل السید جمال الدين حرکات إصلاحیة سلفیة في الجزیرة العربیة وفی الجزائر علی ید عبد القادر الجزائري وفي السودان علی شکل حرکة المهدیة، وفي لیبیا بصورة الحرکة السنوسیة، وتمیزت جمیعًا بالمقاومة والرجعة إلى الأصول.
وإذا کانت هذه الحرکات قد استطاعت أن تحقق بعض النجاح في مقاومة الاستعمار ومکافحة البدع فإنها فشلت تمامًا في تحقیق نهضة شاملة بسبب عدم قدرتها على استیعاب مستجدات العصر، أي إنها کانت تفتقد المعاصرة.
والحملة الفرنسیة فشلت أیضًا أن تحقق نهضة في مصر، رغم کل الجهود التي بذلتها، لأنها لم تکن تنتمي إلى جذور الأمة، فأخفقت في التفاعل، واستثارت الناس ضدها، وعادت من حیث أتت بعد حین. أمّا السید جمال الدين أسد آبادى فقد جمع بین الأصالة والمعاصرة في دعوته، وهذا هو سر کل ما حققه من نجاح.
على أية أسس تكونت شخصية السيد أسد آبادي وبماذا اتصفت؟
كان صحيحَ العقيدة، مؤمنًا بالألوهية، شديدَ التمسك بحكمة الدين. ومع ذلك كان ينفر من التعصب، كان قويَّ الذاكرة، سريع الحفظ، بطيء النسيان. يذكر خطابًا ارتجله أو كتابًا ألَّفه منذ سنين. كان قويَّ الحجة يجذب مخاطبَه إليه ويرضخ لبرهانه ولو لم يكن ساطعًا. يتعذر إقناعه جدلًا لأسلوبه الخاص في إبطال الحجة عليه أو التخلص منها دون مكابرة. يُعطي خصمَه الحقَّ بعد أن يفحمَه، ويدلُّه على ما أغفل من حجج وهو حادُّ الذهن لا يخلو من حدة في المزاج.
وهو عظيم النفس، كبير الهمة، شجاع جريء. يقدم حيث يحجم الناس. كان مُهابًا أكثر منه محبوبًا. وفي الوقت نفسه كان متواضعًا مع من أقل منه، متكبرًا على الملوك والعظماء لحد التجبر. لم يكن مغترًّا بنفسه، مستخفًّا بمن يخاطبه بألقاب دولتكم أو سماحتكم أو يمدح فكره وحكمته وخطابته واحتقار الموت.
أمّا أبرز مميزاته فكانت امتلاكه لثقافة إسلامية، فهو درس العلوم الأولية في مدن قزوين وطهران والنجف الأشرف التي درس فيها عند شخصيتين كبيرتين هما المجتهد الأكبر الشيخ «مرتضى الأنصاري» والفيلسوف «أخوند ملا حسين قلي همداني». كذلك معرفته بالعصر والعالم الحديث إذ كان يجيد اللغات الأجنبية، كالإنكليزية والفرنسية وحتى الروسية وسافر إلى آسيا وأوربا وأفريقيا، والتقى بالشخصيات العلمية والسياسية المهمة في العالم، وكل ذلك أعطاه رؤية عصرية واسعة.
إضافةً إلى معرفته الكاملة والقريبة بالعالم الإسلامي الذي كان يسعى في سبيل تحريره ونجاته، حيث سافر إلى البلاد الإسلامية والتقى بأهلها عن قرب، سافر إلى الحجاز ومصر والهند وإيران وتركيا وأفغانستان وأقام مدةً في كلٍ منها، ولذلك تعرف على حقيقة الحركات والثورات والشخصيات المعاصرة له في البلاد الإسلامية، وعرف أخطاء ونواقص بعض المصلحين لكي يتوقاها. وآخر امتيازاته كانت معلوماته الواسعة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والجغرافية للدول الإسلامية فرسالته المكتوبة إلى «الحاج ميرزا حسن الشيرازي» قائد ثورة التنباك في إيران تكشف عن مدى اطلاعه على الأوضاع العامة في إيران ومؤامرات الاستعمار وما يجرى خلف الستار فيها.
كيف شخص السيد أسد آبادى معضلات البلدان الإسلامية ومشاكلها وما كان أهمها وسببها برأيه؟ وما كان مشروعه الإصلاحي الذي اقترحه لحلها؟ وهل نجح في ذلك؟
في سياق فحصه للحالة الحضارية الإسلامية وتحولاتها باعتبارها مقدمة ضرورية يؤسس عليها فكرة التغيير، رصد السيد جمال الدين عناصر الضعف القائمة في حياة المسلمين في العصر الحديث، وهي: استبداد الحكام، الجهل والغفلة المستشرية بين جميع الفئات المسلمة، والتخلف عن ركب الثقافة والحضارة، تسرّب الخرافة في معتقدات المسلمين وابتعادهم عن الشريعة الأصيلة، التشتت والفرقة بين الجماعات المسلمة تحت عناوين دينية أو غير دينية، تسلّل الاستعمار الغربي في البلدان الإسلامية.
ولقد ركز على أهمية محاربة الاضمحلال الإسلامي بالتغيير السياسي، ثم انتقل إلى التغيير الفكري، فالاجتماعي والسلوكي، وكأن انحراف السلطان يوفر بيئة صالحة لنمو النزعات الفكرية الشاذة، وينتج عن هذا وهن في وظائف التربية والتعليم، ما ينتج عنه انحراف في أخلاق الجماهير تبعًا لضعف القيادة الاجتماعية والتربوية والعلمية ووهنها. ولعل هذا يبين لنا سبب اهتمامه بالإصلاح السياسي إلى جانب الإصلاح الاجتماعي العام .
أمّا الطرق التي بإمكانها أن تحلّ المصائب تلك فهي مناهضة المستبدين في استئثارهم بالحكم، عبر تثقيف الشعب وإفهامه وجوب النضال السياسي على أساس الدين والشريعة، والتزوّد بالعلوم والصناعات الحديثة، والأهم عودة المسلمين إلى الشريعة الأصلية ونبذ الخرافة والبدع والزوائد التي أُلحقت بالإسلام على مدى العصور، ولا تتم هذه العودة برأيه إلا عبر العودة إلى القرآن والسنة الموثوقة، على اعتبار الإسلام كشريعة ومنظومة عقائدية، قادر على تحرير المسلمين والقضاء على الإستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي وتقديم العزة والسعادة للمسلمين، وكذلك معارضة الاستعمار الخارجي بجميع أشكاله السياسية والإقتصادية والثقافية، عبر بث روح الكفاح والجهاد في جسد المجتمع الإسلامي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، فلقد قام باسترجاع أصل الجهاد إلى الأذهان والذي قد أصبح مهجوراً، كما اعتبر نسيانه عاملاً رئيسياً في تخلّف المسلمين التصدي للذهول أمام الحضارة الغربية.
كان يحثّ المسلمين على ترك الخلافات الطائفية، وتقبلّهم للبعض لصالح الأمة وخيرها، من بين ما كان يطلبه من المسلمين أن يحاكوا الغرب في العلم والتقنية، شريطة أن يتحفّظوا على قيمهم الأخلاقية والدينية، كما كان مستاءاً من الخلافات والفرقة لدى المسلمين وحكامهم وقد برز هذا المعنى في ندائه حين قال: «توحّد المسلمون على أن لا يتوحّدوا ولا يتوافقوا، للأسف الشديد هم تكالبوا فيما بينهم، وقاموا بضرب أنفسهم من الجذور».
وكان يؤكد في مسعاه الإصلاحي التغييري تبني مفهوم التقليد في مشروعات التغيير والتمدن، أنه لا يؤمن بتمدن يستعير صاحبه القيم التي ينطلق منها وتحكم اختياراته وترجيحاته، فإنه إن استعار من غيره بعض المظاهر والشكليات والوسائل، فلابد أن يقيم البنيان نفسه على أصوله وأسسه هو؛ لأنها غير قابلة للاستعارة أصلاً، وحتى العناصر التي يستعيرها لابد أن تخضع لمقاييسه ونظرته هو إلى الأمور.
وأمّا الوسائل التي استخدمها لتحقيق مسعاه التغييري فنجد أن ّالواقعية التامة لفكر السيد جمال الدين ومشروعه للتغيير والإصلاح دفعته إلى التمسك بمجموعة من الأدوات الفاعلة التي توسل بها إلى تحقيق مشروعه، ولعل من أهم هذه الأدوات هي التدريس، والخطابة والصحافة.
ما هي أهداف السيد جمال الدين أسد آبادى ودوره في الوحدة الاسلامية؟
يمكن تلخيص أهداف السيد جمال الدين الإصلاحية وإيجاد المجتمع المثالي، الذي كان يعني به المجتمع الإسلامي، في ضرورة إيجاد الاتحاد في جميع مجالات المجتمع، ودحر كل التفرقات العنصرية واللغوية والجغرافية والمذهبية، أمام «الأخوة الإسلامية «حتى لا يصيب الوحدة المعنوية والثقافية والإعتقادية للمسلمين أي خلل. أن يكون المسلمون شعباً واعياً عالماً عارفاً بزمانه وعلوم وصناعات ذلك العصر، أن يكون حراً من كل القيود الاستعمارية والديكتاتورية، أن يقتبس الصناعة الغربية بروح إسلامية لا روح غربية، أن يتسم المسلمون بروح الجهاد، وأن يرجع إليهم الإحساس بالعزة والشرف، حتى لا يقبلوا الظلم والديكتاتورية والاستعباد.
وقد دعا إلى الوحدة الإسلامية عبر قيادة القرآن الكريم، وإلى منع الاختلاف الحزبي والمذهبي من أن يكون سبيلاً لهدم الأمة وتشتيت صفوفها، وشدَّد على أهمية القوة والغلبة إن كان في المجال المادي أو في المجال العلمي، موضحاً منذ البداية، أن الاستعمار الغربي هو العدو الأساس الذي يتربص بالوحدة الإسلامية، وأنّ على المسلمين أن يتوحدوا لمواجهة هذا الخطر.
كيف واجه السيد أسد آبادى الاستعمار الأجنبي وأدواته في البلدان الإسلامية؟ وما هي أهم دلائل المواجهة؟
واجه السيد أسد آبادى الاستعمار بأوجهه المختلفة، سواء الاستعمار السياسي الذي كان يتدخل في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية أو الاستعمار الاقتصادي الذي وصل إلى حد الحصول على الامتيازات الهائلة والمجحفة بحق المسلمين، وسرقة الموارد المالية والاقتصادية للعالم الإسلامي، أو الاستعمار الثقافي الذي جعل المسلمين في حالة فرار من ثقافتهم الاسلامية، ولا يؤمنون بما لديهم من عقائد، وبالعكس كان يطرح الثقافة الغربية على أنها الثقافة الوحيدة الإنسانية والباعثة للسعادة.
لقد كان يعتقد بأن طرح مسألة «عدم الفصل بين الدين والسياسة» في الإسلام، ضرورية لكلا الجبهتين جبهة النضال ضد الديكتاتورية وجبهة النضال ضد الاستعمار. وسعى كثيراً لإثارة الوعي الديني عند المسلمين للنضال ضد الديكتاتورية والاستعمار، وفي مقابل أطروحته، سعت العناصر الاستعمارية كثيراً من أجل الفصل بين الدين والسياسة وطرحت فكرة «العلمانية» التي يعتبر «أتاتورك» بطلها، والمسيحيون في العالم العربي هم الذين روجوا لها، ذلك أن الدين إذا لم ينفصل عن السياسة، فإنّ المسيحيين العرب سيحسون بانعزال واغتراب في المجتمعات العربية. ولكن ليس فقط هم من دعا لنظرية «العلمانية»، بل إنّ عدداً من المسلمين المثقفين ومن الملتزمين أيضاً دعوا إلى ذلك، حتى يستطيعوا بذلك الحصول على حرية انتقاد الحكومات الإسلامية -كالحكم العثماني والمصري- التي استفادت من هذه النقطة. ولا يخفى بأنّ الفصل بين الدين والسياسة التي اتبعها أتاتورك جرّت تركيا إلى الذلة، والتي طبقت في إيران -على يد بهلوي- بإخراج دور الدين من السياسة، جرّت إلى فصل أهم أعضاء الإسلام من الإسلام.
ما هي أهم إنجازات السيد أسد آبادي الاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي؟
إنجازات السيّد جمال الدين كثيرة وكبيرة وهنا نشير إلى أهمّها:
بثّ الوعي واليقظة بين الأمّة الإسلاميّة ونشر الفكر الإسلامي والنهضوي بين كوادرها لا سيّما علمائها ورجالها السياسيين ولا سيّما السياسيين وقد تركت جهود السيد جمال الدين في هذا المجال آثاراً كبيرة وأدّت إلى كثير من التغييرات الاجتماعيّة في البلدان الإسلاميّة. فمن التغييرات والأحداث التي تأثّرت بجهود السيد جمال الدين، الأحداث التي شهدتها بلاد الهند والتي وقف فيها المسلمون موقفاً موحّداً ضد الاستعمار الإنكليزي وقد استطاع فيها المسلمون حفظ هويتهم الإسلاميّة والتي انتهت بالتالي إلى تأسيس دولة باكستان الإسلاميّة.
ومن التغييرات الكبرى التي تأثرت بجهوده وبفكره الثورة الدستوريّة في إيران، فإنّ الثورة الدستوريّة وإن تأخرت زمنياً عن عصر حياة السيد جمال الدين ولكنّ المتأمّل في الأحداث التي سبقت الثورة الدستوريّة ومهّدت لها يجد بوضوح أنّ الخيوط الأولى من النهضة الفكرية والسياسيّة التي انتهت بالثورة الدستوريّة تحركت على يده وهو أول من زرع بذور النهضة التغييريّة في إيران نهايات عهد القاجار.
وأمّا ساحة مصر والشمال الأفريقي، فهي أكثر البلدان تأثراً بفكره ، فإنّ حركة الوعي الإسلامي في هذه المنطقة، وما تلاها من النشاط الإسلامي الحركي والفكري، مدينة بكليتها وأسسها الأولى له.
وقد وفق السيّد توفيقاً كبيراً في نشر الوعي بين الأمة الإسلاميّة واستنهاض رجالها وعلمائها ومفكّريها، وخلق تيار فاعل من الوعي الحركي والفكر النهضوي بين الطبقة المفكّرة والمثقفة في المجتمع الإسلامي في شتّى المناطق وبين مختلف شعوبه.
ختاماً يُعد السيد جمال الدين أسد آبادى رائد الحركة الإصلاحية، فهو من أسَّس حركة إسلامية ثورية لتحرير العالم الإسلامي وتوحيده بشعار بسيط وواضح وهو الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل.