تصریحات اللواء احتیاط فی الجیش الصهیونی ومفوّض شکاوى الجنود سابقاً إسحاق بریک لصحیفة "یدیعوت أحرونوت" التی حذر فیها من خطر التهدید الوجودی لـلکیان الصهیونی وهواجس المواجهة الشاملة التی أصبحت تؤرقها، وهشاشة الجبهة الداخلیة الإسرائیلیة وفقد الجیش الصهیونی القدرة على القتال متعدد الأذرع فی ظل حالة التصدع والتفکک الکبیرة وسقوط استراتیجیة الحرب البریة لجنوده بعد الحروب التی خاضها فی وجه المقاومتین الإسلامیتین فی لبنان وفلسطین، جمیعها تعد معطیات تمثل معضلات کبیرة وعمیقة أمام هرتسی هلیفی رئیس هیئة الأرکان الإسرائیلی الجدید.

یقول بریک لصحیفة "یدیعوت أحرونوت" "نحن فی خطر تهدید وجودی، أهم التحدیات أمام کیان الاحتلال عدم جاهزیة الجبهة الداخلیة التی تتجه لأن تکون مرکز الحرب المقبلة والتی ما زالت تعانی نتیجة تجاهل قیادة الجیش والحکومة الإسرائیلیة لها، وستتلقى فی أی حرب مقبلة ثلاثة آلاف صاروخ فی الیوم ویدمّر أکثر من 100 موقع فی داخل فلسطین 

المحتلة".

یحذر اللواء بریک القادة الإسرائیلیین، من أن "الجیش" فقد القدرة على القتال متعدد الأذرع، وفقد أیضاً امتلاک زمام السیطرة فی الحرب البریة باعتبارها أهم استخلاصات حرب عام 2014 التی وقعت فی قطاع غزة حیث قتل فیها 70 جندیاً إسرائیلیاً، وأسرت حماس الضابط هدار غولدین والجندی أرون شاؤول على حدود القطاع، وهذا باعتراف صحیفة "یدیعوت أحرونوت" بحلول الذکرى الثامنة لوقوعها.

وحذر کذلک عدد من الخبراء العسکریین فی الکیان الصهیونی من مغبة الأمر، وهی لیست المرة الأولى التی یتحدّث فیها اللواء بریک صراحة عن فقدان ثقة الجیش الإسرائیلی بقادته، وتراجع العقیدة القتالیة بین صفوفه وعدم جاهزیته للقتال، وهشاشة الجبهة الإسرائیلیة الداخلیة، وخشیة الکیان الصهیونی الکبیرة من هاجس الحرب ذات الجبهات الخمس، إذ یستند فیما یقول إلى تقاریر خاصة صدرت فی عهده حینما کان یشغل منصب مفوض شکاوى الجنود الإسرائیلیین، وتعزز هذه النتائج حصیلة سنوات ماضیة خاض فیها الجیش الصهیونی حروباً على لبنان، فی تموز/یولیو عام 2006، وعلى قطاع غزة عام 2014 فی معرکة استمرت 51 یوماً تعرّض فیها لانتکاسة کبیرة، وصولاً إلى المعرکتین الأخیرتین "سیف القدس" عام 2021 ووحدة الساحات عام 2022.

تسلیط الضوء على قضایا جوهریة تمس بنیة الجیش الصهیونی والجبهة الداخلیة الإسرائیلیة یمکن تفسیره فی غیر اتجاه أمام تزاید اعترافات خبراء إسرائیلیین حالیین وسابقین، باتوا یجزمون بأن الجیش الإسرائیلی غیر مستعد لحرب شاملة، ولا یمتلک الکفاءة لمواجهة المقاومة بمختلف ساحاتها فی آن واحد، وهذا یعود إلى:

- الإقرار بالفشل وتکوّن صورة ذهنیة جدیدة إزاء حالة التراجع فی العقیدة القتالیة لدى الجیش الصهیونی تدل على أنه أصبح جیشاً مترهلاً شبه مشلول، وأن الرهان علیه فی أی معرکة مصیریة مقبلة لن یجنی منها سوى الخسارة المؤکدة والهزیمة الکبرى.

- ارتباط فشل کیان الاحتلال فی ترمیم التصدعات الکبیرة داخل الجیش بالعقلیة الإسرائیلیة التی باتت تخشى على حیاة الجنود على الأرض وفی المیدان، وأصبح قادة الاحتلال الصهیونی ینأون بقراراتهم خلال أی مواجهة عسکریة عن اتخاذ قرارات بخوض حروب بریة وزج الجنود فیها نظراً إلى تکلفة فاتورتها أمام تطور أداء المقاومة.

- هشاشة الجبهة الداخلیة الإسرائیلیة وحال التصدعات الکبیرة التی أصابتها على مدار حروب خاضها الکیان الصهیونی، جعله وجیشه عاجزین عن تحمل عبء أی حروب جدیدة، وتزداد حال العجز نتیجة ارتفاع وتیرة التحدیات وتعدّد ساحات المواجهة فی آن واحد، وهو ما یشکل له عوامل قلق وتهدید کبیرین.

- ترکیز قادة الاحتلال على تخصیص میزانیات کبیرة خاصة بسلاح الطیران الصهیونی وحروب السایبر فقط، وإهمال تطویر وتعزیز أداء الجیش البری الصهیونی واقتصار النشاطات العسکریة على مناورات مکررة، خلقا حالاً من انعدام الثقة بقدرات الجیش، وأصبح تالیاً عامل الإهمال حاضراً فی العقلیة الإسرائیلیة لدى قادة الاحتلال تجاه الجیش الإسرائیلی بدرجة کبیرة.

تعاظم مجموعات المقاومة فی شمالی الضفة الغربیة، وتشکّل بؤرة اشتعال أصبحت تضرب عصب منظومة الأمن الإسرائیلیة باتا أیضاً عامل قلق کبیر، فی وقت أصبحت فیه الأوساط الإسرائیلیة تقر بقدرة هذه المجموعات على اتخاذ زمام المبادرة فی العمل الفدائی وإشغال الاحتلال واستنزافه فی کل مکان.

باتت "إسرائیل" تنظر إلى حال المقاومة المتصاعدة فی ساحة الضفة الغربیة على أنها تشکل خطراً کبیراً على أمن المستوطنین والجیش الإسرائیلی، فی وقت أصبحت حاضنة المقاومة تمثل الداعم الأکبر لها بل وجاهزة للاشتباک فی أی لحظة.

السیاق الأهم فی المنظور والتقدیرات الإسرائیلیة نابع من ظهور مجموعات مقاومة فی ساحة الضفة الغربیة قادرة على الفعل المقاوم أصبحت تشکل بؤرة لانتفاضة قد تشتعل فی أی لحظة وقد تمتد إلى مختلف الساحات الفلسطینیة الأخرى باتت الیوم أیضاً تشکل نقطة إشغال دائمة ومنطلقاً لعملیات متعددة الساحات، وهذا یعد عاملاً مؤثراً فی موازین القوى القائمة، لکن الأخطر من ذلک وفق المخاوف الإسرائیلیة من أن تؤدی حالة الاشتباک القائمة مع قوات الاحتلال إلى تدهور الأوضاع والدخول فی مواجهة کبیرة على مستوى المنطقة وبخاصة مع المقاومة فی قطاع غزة.

ما یجری على الجبهة الشمالیة فی لبنان لیس ببعید عما یجری من حالة تسخین متدرجة فی شمالی الضفة الغربیة، إذ تعد التصریحات الأخیرة للأمین العام لحزب الله السید حسن نصرالله تجاه أزمة حقل غاز "کاریش" أشبه بساحة تحدٍ جدیدة أمام "إسرائیل" التی باتت تتغول فی موارد المنطقة وثرواتها، إلا أن حزب الله نجح بدرجة عالیة فی منع "إسرائیل" من البدء باستخراج الغاز، وهو ما یعد فرضاً لمعادلة جدیدة، فی وقت أصبح فیه الکیان الصهیونی یخشى أی مواجهة محتملة مع حزب الله ویحسُب له ألف حساب.

من المؤکد أن الأحداث التاریخیة هی أکثر ما یدعو الأمم الحیة إلى التوقف قلیلاً بغرض فحص ما کان، ومراجعة النفس والتصرفات، والبناء علیها لما سیکون. ولعل حالة الأزمة ـ بالذات ـ وتزامنها مع المناسبة التاریخیة وضغطها على الوعی العام، مع ثقلها الشدید على الذاکرة الجمعیة، هی اللحظة التی تتطلب وقفة مشروعة وأسئلة لا تزال بلا إجابات.

ولا تعود الأمم الحیة إلى الماضی بأغراض المحاسبة والتفجع، غالباً، لأن الماضی وفوق أنه غیر قابل للاستعادة، فإنه من المستحیل تعدیل مساره أو وقائعه، بل تعود للقراءة والتعلم، ثم وضع الید على موطن الخلل، ووضع الأقدام على أول طریق الخروج من حالة الأزمة الراهنة، والزحف، ولو نقلة بعد نقلة، بعیداً عن حافة الخطر.

لم یکن مستغرباً، ولبنان یمر بهذه اللحظة الفارقة، أن یخرج الأمین العام لحزب الله سماحة السید حسن نصرالله ویذکر بالمأساة الأعمق فی وجه لبنان بالتاریخ المعاصر، مذابح صبرا وشاتیلا 1982، والتی تتزامن بالضبط مع الاجتیاح الصهیونی للبنان، وتقریباً مع انطلاق المقاومة الإسلامیة الباسلة، کمفتاح للحدیث عن شروط مجاوزة الظرف الحالی، ولیس حدیثاً من باب الوقوف على أطلال الماضی، والتباکی 

عنده.

کانت مجزرة صبرا وشاتیلا، بکل تفاصیل بشاعتها التی تفوق کل حد، تعبیراً عمیقاً ونتیجة حتمیة لمجتمع یواجه عدوه محروماً من السلاح، مجتمع خانته الإرادة الوطنیة، فوقع فی شرک عدو الخارج وخونة الداخل. کانت المجزرة أشبه بـ "ذبح دواجن"، لضحایا قتلوا بدم بارد محرومین حتى من حقهم فی الصراخ، وهی قبل أی شیء، قضیة مستمرة، ولیست حدثاً انتهى وقته ونفدت صلاحیة الحدیث عنه.

العام ذاته الذی شهد المجزرة الأکثر ترویعاً فی الصراع العربی الصهیونی، شهد أیضاً ولادة أشرف ظاهرة عربیة فی الزمن المعاصر، شهد خروج حزب الله کرد کامل شافٍ وافٍ على الاجتیاح الصهیونی للبنان، فی وقت کانت کل القوى العربیة فی صراعات الدیکة ضد بعضها البعض، وکان السلاح هو إجابة اللحظة الصحیحة والوحیدة.

ویمکن، بکل أمانة وتجرد، رد اللحظة العربیة الأهم إلى العام 1982، حین انطلق حزب الله، کمقاومة إسلامیة فریدة فی ظروف ولادتها، متفردة فی إیمانها وقدرتها، لتتحول من حرکة مقاومة مطلوبة إلى معجزة عربیة ولدت على أرض لبنان، واستطاعت مواجهة تحدیاتها کافة، والعبور إلى عام 2022، بعد 4 عقود بالضبط، کقوة کفوءة وقادرة على رسم ملامح المستقبل فی بلدها، ومنطقتها کلها.

کان المطلوب من الحزب أن یحول العقیدة أولاً إلى رسالة تعی ظروف مجتمعه وحدود دوره، ثم تحویل الرسالة بدورها من مبادئ إلى قواعد عمل ومرتکزات حرکة، وأن یحمل خطاباً جامعاً یستطیع تحویل الإیمان من فعل فردی مناطه القلب، إلى حیویة تدفع وتلهم المجتمع والحاضنة الشعبیة من حوله إلى العمل الدائم، والعمل القادر، وبقدر ما کان الخطاب معبراً عن تحدی لحظة الأزمة والواقع کله، کان قادراً على فتح طریق النضال الطویل والشاق، انطلاقاً من صدق الدعوة إلى شرعیة حمل الرایة الوطنیة والدفاع عنها.

الیوم أیضاً مثل الأمس، والإجابة التی تختصر کل تحدیات لبنان هی القوة، القوة أمام عدو مغتصب لا یفهم غیرها، ولا رادع لشروره سواها، والشرعیة التی یحمل أمانتها حزب الله هی الترجمة العملیة للصراع القائم حول حقل کاریش للغاز، فکما أن الحزب من واجبه حمایة الوطن، فأولى أولویاته هی حمایة المجتمع المهدد بالتصدع، والحفاظ على الثروات الطبیعیة للبلد من القرصنة الصهیونیة.

ویدرک أی متابع للأزمة اللبنانیة الحالیة، مهما کان بعیداً، أنها أزمة لم تعد تصلح فیها ولها المسکنات، لا قرض من صندوق النقد الدولی قادر على جبر العجز، ولا تعیین حکومة أو رئیس جدید یستطیع تغییر الواقع الصعب کله، وأنه کما صارت الأزمة جذریة عمیقة، فإن الحل المطلوب هو الآخر هائل، والعلاج الناجح طریق صعب ملیء بالمشاق والعقبات.

تُرکت الأزمة اللبنانیة الاقتصادیة کثیراً، ونفخت فیها الولایات المتحدة والکیان الصهیونی سمومهما فی نارها، حتى باتت خیطاً ثقیلاً ضمن جدلیة الحصار الاقتصادی للبنان، وطبعت آثارها الاجتماعیة الحادة على المجتمع والشارع، واخترقت کل ما خططت وأرادت أن تخترقه من نخب وصناع رأی وسیاسیین.

والأخطر، أنها وضعت البلد کله فی تیه ممتد، من الفقر والعجز والحاجة الشدیدة، وکشفت ظهره للاستهداف الطائفی القادم من السفارات، ولا تزال تزکی صراعات حادة، تجعل نهایة الطریق إما مهلکة فی هذا التیه، أو انتحاراً جماعیاً طوعیاً فی العراء.

إذا کانت القمم السابقة قد آثرت مقاربة منهجیة اقتصادیة تفترض تکاملاً بین اقتصادیات مجموعة من الدول الساعیة للتخلص من عقدة الخضوع الاقتصادی والمالی للتکتل الغربی، من دون إثارة مواجهة سیاسیة، فإنها فی السنتین الأخیرتین قد اتخذت سلوکاً یعبّر عن الجوهر الحقیقی لهذه المنظمة، إذ إن خطاباً موحداً، جوهره التحدی، قد جرى تسویقه بلغات متعددة. 

إذا کان الغرب قد حاول إظهار القمة الأخیرة على أنها فرصة ستحاول روسیا استغلالها لتأکید فشل الغرب فی محاولة عزلها؛ بسبب عملیتها العسکریة فی أوکرانیا، فإن هذه المحاولة قد تبدو قاصرة عن فهم حقیقة هذه القمة، إذ إن مجموعة من الملفات العالقة بین بعض دول القمة والغرب، تؤکد أن الغایة منها تتخطى محاولات فردیة لإظهار القمة على أنها تعبیر عن تضامن جماعی حول بعض الأهداف القومیة أو الخاصة، لتقارب أهدافاً ترتبط برؤیة جدیدة للنظام العالمی بعید عن الشکل الحالی، الذی یمکن تحلیله کنظام تؤدی من خلاله أکثریة ساحقة من الدول وظائف حیویة لضمان رفاهیة ومصالح عدد قلیل من الدول الأخرى.

وإذا کان هناک من یعتقد بأن الغرب عموماً، والولایات المتحدة الأمیرکیة خصوصاً، لا یستشعرون خطر هذه المنظمة فی المدى القریب، نتیجة إیمانهم بعدم قرب إعلانها کحلف استراتیجی بین دولها، ونتیجة الاختلاف التکتیکی بین الطرفین الأساسیین الصینی والروسی فی مقاربتهما لعلاقاتهما بالقوى الغربیة، فإن التوجه الذی حاولت القمة فی بیانها الختامی أن تکرسه یؤکد، على الرغم من اللغة الدافئة والکلمات المنمقة، أن وجود مراکز قوى جدیدة، ذات أدوار حیویة فی توازنات النظام الدولی، قد أصبح حقیقة واقعیة، لا یمکن التغاضی عنها.

فی هذا الإطار، یجب أن تسجل لدول منظمة شنغهای واقعیتها لناحیة تقدیرها بعدم إمکانیة هدم أسس النظام العالمی القائم، أو الانفصال عنه. فإصرارها، من خلال بیانها الختامی وکلمات زعمائها فی سمرقند، على ضرورة إصلاح الآلیات الدولیة المنظمة للعلاقات بین الدول، إذ طالبت بإصلاح منظمة التجارة العالمیة، وبناء نظام عالمی یضع الأمم المتحدة فی صلبه، یؤکد أنها فی طور البحث فی إمکانیة التعدیل الناعم، بعیداً من ضوضاء الحرب والتهدیدات فی شرق أوروبا وبحر الصین الجنوبی.  من ناحیة أخرى، یمکن القول إن فی البیان الختامی للقمة الأخیرة، والذی یمکن وصفه بالتقلیدی، ما یثیر القلق لدى الجانب الغربی. فالإصرار على تطویر العلاقات فی میادین الدفاع والأمن، واعتماد قائمة مشترکة للمنظمات الإرهابیة والمتطرفة، بالإضافة إلى طغیان الحدیث عن عالم دولی جدید، وضرورة الالتفات إلى الدور المتعاظم لمراکز النفوذ الجدیدة. 

یمکن تصنیف منظمة شنغهای کباکورة تخطیط دولی یهدف إلى کسر شکل النظام الدولی الحالی، من خلال إجبار القوى الغربیة عموماً، والولایات المتحدة خصوصاً، على اتخاذ مسار مختلف فی علاقاتها الدولیة. فمجموع قوى شنغهای، بما تکتنزه من ثروات طبیعیة وتقنیة، ومن نسبة عالیة من عدد سکان المعمورة، وبما تمثله من استراتیجیات متعارضة مع المشروع الغربی، باتت متیقنة من إمکانیة تنفیذ قرارها بتغییر شکل النظام العالمی.